الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

الاتحاد الأفريقي بين الميثاق والأجندات الدولية: حالة السودان نموذجًا!؟

السفير د. معاوية التوم

مقدمة

تأسس الاتحاد الأفريقي في العام ٢٠٠٢ على أنقاض منظمة الوحدة الأفريقية، وهو يحمل في ميثاقه التزامًا واضحًا باحترام سيادة الدول وعدم الخضوع للإملاءات الخارجية، تحت شعار “حلول أفريقية لمشكلات أفريقيا”. غير أن واقع الحال يكشف مفارقة صارخة، إذ تحوّل الاتحاد في السنوات الأخيرة إلى ساحة نفوذ للقوى الدولية أكثر من كونه مؤسسة سيادية مستقلة معنية بالشأن الأفريقي، وبات نفوذ كبار الموظفين فيه اكبر من ارادة دوله ومؤسساته وميثاقه.
قضية السودان تبرز نموذجًا حيًا لهذا التحول. فبعد أن جمّد الاتحاد عضوية السودان في أعقاب اندلاع الحرب في أبريل 2023، كان المبرر غياب حكومة مدنية تستوفي شروط الميثاق. واليوم، ومع وجود حكومة مدنية انتقالية معترف بها داخليًا وخارجيا رحب بها الاتحاد الأفريقي نفسه ، ورفض مجلس الأمن اي محاولات لتشكيل حكومة موازية، بات من المنطقي رفع التجميد. لكن ما حدث هو العكس: ورغم الجهود التي تبذلها الشقيقة مصر ما تزال ثلاث دول نافذة داخل الاتحاد—جنوب أفريقيا، كينيا، وإثيوبيا— تعارض عودة السودان، في موقف لا يعكس روح الميثاق ولا الجوار والوشائج بقدر ما يعكس تماهيًا مع أجندات الرباعية الدولية ، وربما بصفة أدق رغبة الراعي الأساسي لمسار الحرب من خارج الحدود .والمساعي الدولية التي تسعى لاعادة انتاج ما يسمى (بتأسيس وصمود) والدعم السريع في تسوية اخرى بمعادلة جديدة تعمل لاجلها اطراف دولية نافذة من خلال الحراك الدولي الماضي.

أولًا: الموقف المعلن – غطاء الميثاق

•جنوب أفريقيا تذرعت بضرورة الالتزام الصارم بالميثاق وعدم شرعنة الأوضاع القائمة في ظل الحرب.
•كينيا اعتبرت أن رفع التجميد سيُضعف فرص الوساطة الإقليمية ويمنح الأطراف العسكرية شرعية مبكرة.
•إثيوبيا ربطت موقفها بمخاوف أمنية تتعلق بتسليح الفصائل التِغرائية المعارضة عبر الأراضي السودانية.
هذه المواقف تبدو للوهلة الأولى متسقة مع نصوص الميثاق الأفريقي، لكنها في جوهرها تعكس حسابات سياسية تتجاوز مجرد التمسك بالميثاق الي رغبة تمزج بين مخاوفها الأمنية الداخلية ورغبة قوة عظمى في إبقاء السودان تحت العزلة، فتتقاطع مصلحتها المحلية مع الأجندة الدولية .

ثانيًا: الحسابات الإقليمية الخاصة

•إثيوبيا تتخوف من هشاشة السودان ومن أن يتحول إلى منصة لتهديد أمنها الداخلي، خاصة بعد تجربة حرب تيغراي والنزاع حول الفشقة.
•كينيا لها علاق خاصة بالدعم السريع ومصالح مكتسبة من هذه الحرب والذهب ، ترى في الملف السوداني فرصة لترسيخ مكانتها كوسيط إقليمي يحظى باعتراف الغرب وبعض نصرائها، وتوظفه كورقة نفوذ في علاقاتها الدولية.
•جنوب أفريقيا تتراجع في علاقاتها الثنائية بالسودان وتستخدم خطاب الشرعية والقانون لتوازن علاقاتها بالغرب وتظهر بمظهر الحارس المؤسسي للميثاق، دون أن تتحمل أعباء الملف عمليًا.

ثالثًا: الدول الثلاث بين الموقف المعلن والارتباط بالراعي الدولي للحرب

لا يمكن فهم مواقف هذه الدول بمعزل عن تأثيرات الرباعية الدولية التي تتحكم بملف السودان:

•جنوب أفريقيا: تؤدي دور “الغطاء القانوني” لموقف الغرب داخل الاتحاد، إذ تمنح قرارات العزل مشروعية شكلية تحت ستار القانون.
•كينيا: تمثل الواجهة السياسية المباشرة للرباعية في شرق أفريقيا والايقاد ، فدورها كوسيط صُمم على مقاس واشنطن ولندن، مما يجعلها أكثر تمسكًا بإبقاء السودان مجمدًا كوسيلة ضغط.
•إثيوبيا: تمزج بين مخاوفها الأمنية الداخلية ورغبة الغرب في إبقاء السودان تحت العزلة، فتتقاطع مصلحتها المحلية مع الأجندة الدولية دون تناقض.

بهذا التوزيع، تخدم الدول الثلاث مصالح الرباعية بتنسيق دقيق:

•غطاء قانوني (جنوب أفريقيا).
•شرعية الوساطة (كينيا).
•الضغط الأمني الإقليمي (إثيوبيا).

معنى هذه المقاربة

هذه القراءة لا تكتفي بسرد المواقف الرسمية للدول الثلاث، بل تنطلق من مقاربة تحليلية تفكك مستويات القرار:

•المستوى المعلن: شعارات الشرعية والميثاق.
•المستوى الإقليمي: حسابات أمنية وسياسية ومصالح ذاتية تخص كل دولة.
•المستوى الدولي: الارتباط بالرباعية الدولية التي ترعى مسار الحرب في السودان وتوجه بوصلتها بغية تسوية سياسية تجعل من مأساة الفاشر الإنسانية منصة لها .

وبذلك يتضح أن المواقف ليست مجرد التزام بالميثاق، بل مزيج من الظاهر القانوني والمضمر السياسي الدولي، والمصالح الذاتية وضغوط من خارج الاقليم، ما يجعل الاتحاد الأفريقي انعكاسًا لتوازنات الخارج أكثر من كونه تعبيرًا عن إرادة قارية مستقلة، سيما وان السودان قد جرى تجميد عضويته في اكتوبر ٢٠٢١ وسرعان ما عادت بعد شهرين من ما اسمته الحكومة وقتها بتصحيح المسار .

رابعًا: الاتحاد الأفريقي بين الشعارات والواقع

التحولات الأخيرة تفضح هشاشة استقلالية الاتحاد الأفريقي:

•فبدلًا من أن يكون ساحة لحماية السودان في مواجهة حرب تمزق كيانه، وتغض مضاجع شعبه تحول إلى منصة لتكريس عزله.
•القرارات لم تُبْنَ على نصوص الميثاق، بل صيغت على مقاس توازنات الرباعية الدولية ومصالح لإرادات دولية نافذة ورغبة من خارج حدود القارة.
•النتيجة: الاتحاد يفقد مصداقيته كمنبر سيادي أفريقي ويكرس صورته كمطية لإرادات الخارج.
والأدهى أن الاتحاد يكشف عن ازدواجية معايير فاضحة: ففي أعقاب إجراءات 25 أكتوبر 2021، جُمّدت عضوية السودان، لكن لم يلبث أن رُفعت خلال شهرين فقط، بينما الآن تمتد فترة التجميد لما يزيد عن عامين رغم توفر حكومة مدنية انتقالية واعتراف دولي بها.

هذه المفارقة تكشف أن الاعتبارات القانونية لم تعد هي المحدد، وإنما درجة التوافق مع إرادة القوى الدولية هي التي ترسم حدود قرار الاتحاد الأفريقي.

خاتمة

لقد تجاوز السودان الشرط الأساسي الذي استند إليه الاتحاد في قرار التجميد، وهو غياب الحكومة المدنية، بدليل اعتراف المجتمع الدولي بها ورفض مجلس الأمن قيام حكومة موازية. ومع ذلك، يظل قرار الاتحاد رهينة لتوازنات خارجية تُدار عبر ثلاث دول أفريقية نافذة تمثل أدوات ضغط للراعي الدولي للحرب. حتى الآن لم يُعلن رسمياً إعادة السودان لعضوية مفعّلة كاملّة في الاتحاد، ورفض الإعلان بأي شكل يُشير إلى أن التجميد قد زال من الناحية المصطلحية لا الإجرائية. لذا فإن هذه الموقف لا تطعن فقط في استقلالية الاتحاد الأفريقي، بل تثير سؤالًا وجوديًا حول جدوى مؤسساته: هل هو فعلًا بيت القارة وحامي سيادتها، أم مجرد ذراع إداري يلبّي مصالح القوى الدولية تحت غطاء الشرعية القانونية والمزايدات السياسية؟
إذا لم يستعد الاتحاد استقلالية قراره، فإن القارة ستبقى أسيرة لإملاءات الخارج، بينما يظل السودان وغيره من الدول الأفريقية رهائن لحسابات لا علاقة لها بميثاق الاتحاد ولا بمصالح شعوبها، ولا التحديات التي تواجه دوله. نعم ظهرت مؤشرات تواصل إيجابي، مثل سماح الاتحاد لمندوب السودان بإلقاء كلمة ودعوات علنية من رئيس المفوضية. (بيد أن الاتحاد الأفريقي ظل مصراً على شروطه، خصوصًا تشكيل حكومة مدنية (حقيقية)!؟ الاتحاد يعترف فقط بـ “المجلس السيادي الانتقالي” والحكومة المدنية الانتقالية المشكلة حديثاً، ويرفض الاعتراف بأية حكومة موازية كهيئة تمثل السودان وإجراء التعليق باقٍ.!؟
هنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل باتت معايير الاتحاد تُقاس بمدى توافقها مع مصالح الخارج لا مع نصوص الميثاق؟ ولماذا يُرفع التجميد سريعًا حين تتسق الظروف مع إرادة القوى الكبرى، ويُمدَّد حين تتعارض معها، حتى وإن توفرت حكومة مدنية وشرعية وطنية؟
إن استمرار هذا النهج لن يقوّض فقط استقلالية الاتحاد الأفريقي، بل سيحوّله في نظر شعوب القارة إلى أداة لإعادة إنتاج الإملاءات الدولية بدلًا من أن يكون بيتًا جامعًا يحمي سيادتها ويعبّر عن إرادتها الجماعية.
————
١٥ سبتمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!