الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

الإمارات ومخطط تفكيك السودان: قراءة في دلالات المرحلة الماثلة وانعكاساتها على الأمن القومي!؟

السفير د. معاوية التوم


مدخل: معركة الوعي والسيادة:
يدخل السودان مرحلة جديدة من الصراع، ليست فقط عسكرية في ميدان القتال، بل معركة سياسية، أمنية واستراتيجية في ميدان الوعي والسيادة. فالمشهد الماثل اليوم يُظهر بوضوح أن الحرب قد تجاوزت كونها نزاعًا داخليًا محدودًا، وإنما ساحة غزو مفتوحة لمشروع تخريبي هدام وطموح، لتقاطع مصالح إقليمية ودولية تسعى لإعادة هندسة الدولة السودانية وتفكيكها إلى مناطق نفوذ وبؤرة إثارة تهدد الامن في كامل المنطقة بحصان المليشيا.
في هذا السياق، يبرز الدور الإماراتي بوصفه الأكثر إثارة للجدل والأكثر حضورًا في خلفية الأحداث، وفق ما عبّرت عنه تصريحات الفريق أول ياسر العطا الذي أكد كما اشرنا مراراً، أن مخطط ابتلاع السودان هو مشروع ممول ومخطط له منذ عام 2017، ويمتد أثره إلى بعض أطراف ليبيا وتشاد وجنوب السودان والنيجر والجزائر وغيرها.
الخلفية: من النفوذ الاقتصادي إلى التدخل العسكري:
بدأت ملامح الدور الإماراتي في السودان تظهر منذ سقوط النظام السابق في 2019، حين تحركت أبوظبي لتعزيز حضورها عبر البوابة الاقتصادية والسياسية، مستغلة جلبة الثورة وهشاشة المرحلة الانتقالية، وداعمةً أطرافًا داخل المشهد السوداني لتحقيق توازن يخدم مصالحها، عبر الرباعية الاولي (امريكا ، برطانيا ، الإمارات والسعودية) منذ اعتراضها في ١٨ أبريل على بيان المجموعة العربية بنيويورك الذي اعد باكرا لإدانة التمرد وعكس حقيقة هذا المخطط، هذا التدخل الماكر للإمارات وقد كانت تمثل المجموعة العربية داخل مجلس الامن يومها، رمى تدخلها لطمس وضرب تمرير الرواية السودانية وفرض مخططها الحالي .
وهو التطور الأخطر الذي جاء مع اندلاع الحرب في ١٥ أبريل 2023، حين كشفت مصادر ميدانية وتقارير دولية، من بينها تقارير فايننشال تايمز وأسوشييتد برس، عن تورط إماراتي مباشر في دعم مليشيا الدعم السريع بالسلاح والعتاد، عبر مسارات لوجستية تمر من تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، بإسناد عسكري ومنظومة متكاملة لإدارة الحرب الجارية على بلادنا.
تحركت الإمارات، بحسب هذه التقارير، ضمن رؤية استراتيجية أوسع لتأمين مواقع نفوذ على البحر الأحمر وفي العمق الأفريقي، مستفيدة من ضعف الدولة السودانية، ومن حالة الاضطراب التي صاحبت حالة اللا استقرار التي تعيشها البلاد. وهكذا تحولت من لاعب اقتصادي إلى فاعل عسكري مؤثر يسعى إلى ترجيح كفة طرف داخلي مسلح على حساب الدولة الوطنية في حرب بالوكالة من خارج الحدود.
المرحلة الماثلة: السودان يرفع الغطاء عن المستور:
التصريحات الأخيرة للفريق ياسر العطا، عقب توليه قيادة “القيادة الجوالة”، تمثل لحظة فارقة في الخطاب الرسمي السوداني.الذي انتقل بمواقفه من لغة التلميح إلى المباشرة، ومن اتهامات دبلوماسية إلى إدانة معلنة لدولة الإمارات بوصفها الطرف الراعي والممول والمخطط والمنفذ لمشروع إسقاط السودان.
هذا التحول يعكس تطورًا في الوعي الرسمي والسياسي السوداني الجمعي بأبعاد المعركة الجارية، ويدل على أن القيادة السودانية قررت نقل المعركة من الميدان العسكري إلى الفضاء السياسي والدبلوماسي الدولي .بل ولفت قادة الاقليم الي المخطط الشرير الذي يريد اقامة منصة ارهابية لقلقلة القارة الإفريقية ونهب مواردها عبر ما يجري في السودان.
كما أعلن العطا عزم السودان على تدويل القضية ورفع شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة ضد الإمارات، وهو ما يعني أن الخرطوم تتجه لتوسيع نطاق المواجهة إلى المستوى الدولي، مستندة إلى ما تسميه بـ”الأدلة الميدانية واللوجستية” التي تثبت دعم أبوظبي للمليشيا.
قراءة في دوافع الإمارات: الجغرافيا والموانئ والنفوذ:
لا يمكن فهم الدور الإماراتي في السودان بمعزل عن طموحها الإقليمي الاستيطاني في السيطرة على الموانئ وخطوط التجارة والطاقة والزراعة.فالسودان، بموقعه الممتد على ساحل البحر الأحمر، وبموارده الزراعية والمعدنية، يُعد إحدى أهم حلقات النفوذ في معادلة الأمن البحري الإقليمي.وتسعى أبوظبي، من خلال دعم قوى محلية متحالفة معها، إلى تأمين وجود دائم في الموانئ السودانية، وعلى رأسها بورتسودان وسواكن، ضمن مشروعها المعروف في أدبيات التحليل بـ”حرب الموانئ”، التي امتدت من اليمن إلى القرن الأفريقي.
كما أن السودان يشكل بوابة استراتيجية إلى العمق الأفريقي، ما يجعله محورًا في مشاريع الإمارات لتوسيع حضورها في تشاد والنيجر وجنوب السودان. وبهذا تصبح الحرب الحالية وسيلة لإعادة ترسيم الجغرافيا السياسية لصالح مراكز نفوذ جديدة تديرها الأموال لا السيادة، والمصالح الخارجية لا شعوب البلدان .
انعكاسات الدور الإماراتي على الأمن القومي السوداني:
1. تهديد وجودي للدولة الوطنية
استمرار الدعم الخارجي للمليشيا التي تستهدف وتقتل المدنيين يهدد بتآكل الدولة من الداخل ويعمّق الانقسام الجغرافي والمجتمعي، ما يُضعف وحدة القرار الوطني ويقوض أسس الدولة المركزية.
2. خلخلة توازن القوى في الإقليم
دعم الإمارات لمليشيا مسلحة في السودان يعني إعادة رسم التوازن الإقليمي في القرن الأفريقي وحوض النيل، ويؤسس لسابقة خطيرة في العلاقات العربية–العربية تقوم على استخدام المليشيات كأدوات نفوذ.
3. توسّع رقعة عدم الاستقرار الإقليمي
امتداد النشاط الإماراتي إلى ليبيا وتشاد وجنوب السودان يشير إلى مشروع تفكيك وأجندات التمزيق والفوضى المتدرجة لبنية الأمن الإقليمي الأفريقي، بما يُهدد الأمن الجماعي ويقوض جهود الاتحاد الأفريقي.
4. احتمالات مواجهة دبلوماسية مفتوحة
من خلال ما تكشف من تمويل وتجنيد وشراء للذمم داخل مؤسسات الدولة . وتحشيد إعلامي ولوجستي وشراء للسلاح والمرتزقة وقادة الدول في المنطقة وداخل المنظمات الاقليمية من قبل أبوظبي واستخدام مختلف الوسائل والأساليب الماكرة. يصبح لجوء الخرطوم إلى المسار الأممي والقانوني الي جانب الميداني يعني تصعيدًا جديدًا في العلاقات مع أبوظبي، قد يُفضي إلى عزلة سياسية متبادلة وإعادة الاصطفافات الإقليمية ودول الجوار في ضوء الموقف من هذه الحرب.
السودان بين الصمود والمساءلة الدولية:
يتجه السودان، في هذه اللحظة المفصلية، ويسعى جاهدا إلى تحويل صموده الميداني إلى مكسب سياسي ودبلوماسي.فبعد أكثر من عامين ونصف من الحرب، تتنامى قناعة الدولة بأن المعركة لن تُحسم فقط بالسلاح، بل بكشف الحقيقة وإحراج الأطراف المتورطة أمام الرأي العام الدولي.في سياق التقارير الامنية المتعددة من منظمات دولية ومنظمات حقوقية وازنة وكبريات الصحف العالمية والمراكز البحثية.
إن الشفافية في عرض الأدلة، وإدارة الملف سياسيا وقانونيًا وإعلاميًا بذكاء، يمكن أن يشكّلا نقطة تحول في كسب التعاطف العالمي مع السودان، وإعادة تعريف الحرب على أنها عدوان خارجي مستتر بأدوات داخلية في ظاهرها.
خاتمة: السودان يعيد تعريف أمنه القومي:
لم يعد الأمن القومي السوداني يُقاس بقدرة الجيش على الدفاع عن الحدود فقط، بل بقدرته على حماية قراره الوطني من الاختراق والتبعية.
إن مواجهة المشروع الإماراتي ليست مجرد خلاف سياسي، بل صراع على هوية السودان واستقلاله وموقعه في الخريطة الإقليمية. يحتاج الي وعي وإدراك شعبي وجماهيري أكبر ، وجاهزية لكل السيناريوهات المحتملة، منذ وقت طويل عززته خطى إعلان الحكومة الموازية واحتلال الفاشر .ومن الواضح أن القيادة السودانية، في خطابها الأخير، وضعت النقاط على الحروف: السودان لن يُبتلع، ولن يكون ساحة لتصفية حسابات الخارج، بل سيبقى دولة عصية على التفكيك، تقاتل لتصون أرضها وأمنها وكرامتها ومستقبلها. وأنها الان حددت عدوها بدقة وستكشف عن الشبكات الأخرى والتحالفات وكل المنظومات التي تغذي هذا العدوان الخارجي على أمن وسيادة البلاد، وحملات الهدم والتخريب والنهب والتجريف التي طالت الموارد والبنية التحتية فضلا عن القتل والاغتصاب وكل أشكال العنف الجنسي والجنساني ضد شعبنا. مقابل التجاهل وغياب الضمير العالمي تجاه ما تقوم به الإمارات من مؤامرة بحق السودان ارضا وشعبا ودولة. لذلك يأتي التقدم العسكري بمتحركاته غربا بثقل وطني تكاملي ليضع حدا لهذا المخطط الآثم في تمزيق البلاد. وتبقى رسالة القيادة السودانية للداخل والخارج عبر العطا ان الطريق للسلام مدخله حسم التهديدات الماثلة واستعادة الامن القومي، وحماية المدنيين من هذه الطغمة الارهابية التي تجد غطاءً دوليا تبريري عبر منصة الرباعية بدعوتها لهدنة تكافئ الجاني ولا تطلب خروجه من الفاشر كما يدعو القرار الاممي رقم (٢٧٣٦- ٢٠٢٤).
————
١١ نوفمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!