الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

الإعلام والثقافة والسياحة في السودان: مثلث القوة الناعمة والتحدي الغائب !؟

السفير د. معاوية التوم

مقدمة:

في زمن تتغير فيه خرائط النفوذ الدولي بسرعة الضوء، لم تعد قوة الدول تقاس فقط بترسانتها العسكرية أو احتياطياتها النفطية والذهب، بل بما تمتلكه من قدرة على رواية قصتها للعالم. فالصورة التي تصنعها الشعوب عن نفسها عبر الإعلام، والهوية التي تكرسها عبر الثقافة والموروث، والجاذبية التي تعرضها عبر السياحة، أصبحت أدوات أكثر تأثيراً من البندقية والدبلوماسية الصلبة.

السودان – ذلك البلد الذي يقف اليوم على مفترق طرق بعد سنوات الحرب والاضطراب – يملك من عناصر القوة الناعمة ما يؤهله لأن يتحول إلى أيقونة حضارية وسياحية في محيطه الإقليمي والدولي: تاريخ ضارب في القدم من حضارة كوش إلى مروي، تنوع ثقافي يندر وجوده في العالم، وموارد طبيعية وسياحية وآثار ذات قيمة لم تُستثمر بعد. لكن هذا الكنز ظل معطلاً لأن الإعلام والثقافة والسياحة لم تُجمع في مشروع وطني واحد، بل تفرقت بين هياكل متنازعة ورؤى متباعدة ونظرة محدودة.

إن اللحظة التاريخية الراهنة تفرض على السودان أن يعيد اكتشاف ذاته من خلال مثلث القوة الناعمة: الإعلام الذي يروي، الثقافة التي تعرّف، والسياحة التي تجذب. فحين تجتمع هذه الأضلاع في إطار مؤسسي موحّد، يتحول السودان من بلد تبحث عنه العناوين السلبية، إلى دولة تفرض حضورها بالصورة والهوية والجاذبية التي يصنعها المشهد.
الإعلام.. مرآة السودان للعالم
الإعلام في السودان ظل لعقود طويلة أسيراً للسياسة المباشرة، ووسيلة للخطاب الرسمي أكثر من كونه منصّة للتعبير الثقافي والترويج السياحي. والنتيجة أن صورة السودان في الخارج ارتبطت بالحروب والأزمات والفشل السياسي أكثر مما ارتبطت بالتنوع الحضاري والموارد الطبيعية والجاذبية الإنسانية.
إذا أعيد توظيف الإعلام ليصبح أداة ترويجية للثقافة والسياحة، فإن السودان سيكسب نافذة واسعة لإعادة رسم صورته، تماماً كما فعلت دول مثل تركيا عبر المسلسلات الدرامية التي جمعت بين الفن والتاريخ والسياحة، أو (الإمارات) عبر منصّات إعلامية ضخمة تُسوّق لمراكزها الثقافية ومتاحفها العالمية.
في السودان، يمكن للإعلام أن يعيد إحياء الموروث السوداني – موسيقى، شعر، أدب، فن وعادات شعبية – وأن يوظفه للتسويق السياحي؛ حيث تتحول البرامج التلفزيونية والإذاعية إلى أدوات ترويج، والمحتوى الرقمي إلى جسر بين الداخل والاقليم والعالم.
الثقافة.. رأس المال الرمزي للسودان
يمتلك السودان ثروة ثقافية هائلة لم تُستثمر بعد: حضارة كوش ومروي، الإرث النوبي، الموروث الصوفي، التنوع الإثني واللغوي، الفنون الشعبية، الموسيقى، والمسرح. هذه الثروة لو وُظفت كجزء من مشروع وطني جامع، لأصبحت رأس مال رمزي يعادل في قيمته الموارد الاقتصادية والمعادن النفيسة .
الربط بين الثقافة والإعلام والسياحة يمكّن من تحويل الثقافة إلى منتج اقتصادي، لا مجرد نشاط احتفالي. فالمهرجانات الثقافية يمكن أن تجذب السياحة الداخلية والخارجية، والأنشطة الفنية يمكن أن تدر دخلاً من خلال التذاكر والبث الإعلامي، والكتب والأفلام السودانية يمكن أن تصبح سفيراً متجولاً يحمل هوية البلاد.
السياحة.. الاقتصاد الذي لم يولد بعد
يُعد السودان من أقل الدول استثماراً لموارده السياحية رغم امتلاكه مقومات استثنائية:

•الآثار القديمة: أهرامات مروي، معابد نبتة، وآثار النوبة القديمة النقعة والمصورات والبركل والشُعب المرجانية.

. السياحة البيئية: سواحل البحر الأحمر، محمية الدندر، التنوع البيولوجي في الشرق والجنوب، وطبيعة جنوب كردفان ودارفور .
•السياحة الثقافية: المهرجانات، الفنون الشعبية، الأسواق التراثية.
•السياحة الدينية: المقامات الصوفية والموروث الإسلامي المتنوع.
. السياحة المصنوعة.. محميات ، حدائق..فنادق،الغطس ، الرياضات المختلفة
هذا التنوع يجعل السياحة في السودان اقتصاداً بديلاً قليل التكلفة مقارنة بالصناعات الثقيلة، وقادراً على توفير فرص عمل واسعة وتحريك عجلة التنمية في مناطق الهامش. لكن نجاح هذا القطاع يتوقف على وجود منظومة إعلامية وثقافية متكاملة لتسويق المقاصد السياحية داخلياً وخارجياً.
التجارب الدولية الملهمة
•تركيا: دمجت الثقافة والسياحة في وزارة واحدة، واستثمرت في الإعلام (المسلسلات التاريخية) كأداة جذب سياحي وثقافي.
•المغرب: دمجت الإعلام مع الثقافة في وزارة واحدة، مع شراكة قوية مع وزارة السياحة لتسويق صورة البلد.
•تونس: جربت أكثر من صيغة دمج (الثقافة والسياحة) بهدف توحيد الترويج الخارجي.
•الإمارات: رغم صغر حجمها وظفت الإعلام الضخم للترويج لمتاحفها ومهرجاناتها، حتى أصبحت السياحة الثقافية أحد أعمدة اقتصادها.
هذه التجارب تقدم دروساً مهمة للسودان: أن التكامل المؤسسي بين الإعلام والثقافة والسياحة يعزز من القوة الناعمة، ويوحد الجهود، ويختصر الموارد، ويتيح للبلاد فرصة لاعادة تشكيل الواقع الثقافي والسياحي.
لماذا الدمج في السودان ضرورة؟
في ظل شح الموارد وتشتت الجهود، ومحدودية الكادر الإبداعي يصبح دمج هذه القطاعات الثلاثة في وزارة واحدة على نحو ما جرى خطوة استراتيجية لازمة وتجربة تحمل الكثير من البشريات والحفز الايجابي .
المكاسب المحتملة:

1.توحيد الخطاب الإعلامي: بحيث يخدم أجندة الثقافة والسياحة معاً.
2.ترشيد الإنفاق: دمج الهياكل وتقليل التداخل وإثراء هذا القطاع.
3.تعظيم القوة الناعمة: إبراز صورة السودان كبلد حضاري متنوع.
4.جذب الاستثمارات: خلق بيئة سياحية وثقافية قادرة على استقطاب رأس المال وتنويع مشاربه.
5.بناء الهوية الوطنية: عبر الثقافة والإعلام كسلاح وحدوي ضد حملات الانقسام والتفكيك وخطاب الكراهية.

خطوات عملية لإثراء التجربة السودانية
1.إعداد استراتيجية وطنية للإعلام والثقافة والسياحة بخطط قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى عبر ورش عمل احترافية ومهنية .
2.إطلاق قناة أو منصة رقمية متخصصة في الترويج الثقافي والسياحي باللغات العالمية تبرز التنوع الثقافي لولايات البلاد ومكامن السياحة.
3.تنظيم مهرجانات دورية (موسيقى، سينما، شعر، تراث ، فنون مسرح ) مرتبطة بمسارات سياحية محددة.
4.تدريب الكوادر الإعلامية على فنون التسويق السياحي وصناعة المحتوى الثقافي التنافسي.
5.إحياء الصناعات التقليدية كجزء من الهوية الثقافية والترويج السياحي وربطها بالتقانة.
6.إبرام شراكات إقليمية ودولية مع شركات إعلام وسياحة كبرى بتدريب نوعي .
لذا فإن الدمج بين الإعلام والثقافة والسياحة في السودان ليس مجرد مقترح إداري، بل هو خيار استراتيجي يعيد تعريف السودان أمام نفسه وأمام العالم. فالدولة التي أنهكتها الحروب والانقسامات تستطيع أن تجد في هذا المثلث نقطة انطلاق جديدة، تُبنى على القوة الناعمة لا على القوة الصلبة وحدها، وتفتح الباب أمام اقتصاد بديل وصورة مشرقة وهوية جامعة.
السودان اليوم بحاجة إلى أن يحكي قصته بنفسه، أن يبرز ثقافته، أن يستثمر تاريخه، وأن يعرض جماله الطبيعي للعالم. الإعلام والثقافة والسياحة هي أدوات هذه المهمة، ودمجها في رؤية واحدة هو السبيل لإثراء التجربة الوطنية وفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد.

خاتمة:

إن السودان لا يفتقر إلى المقومات ولا إلى الكنوز والمنابع الرافدة، بل يفتقر إلى الرؤية التي تجمع وتنسّق وتحوّل الإمكان إلى فعل. فالإعلام إذا تُرك دون ثقافة يصبح صدىً عابرًا بلا مضمون، والثقافة إذا عاشت بمعزل عن الإعلام تبقى حبيسة القاعات والمكتبات، والسياحة إذا لم تجد من يروّج لها ويمنحها هوية تبقى ثروةً نائمة في الرمال. لكن اجتماع هذه الأضلاع الثلاثة في مشروع وطني واحد يجعلها تتحول إلى قوة دفع هائلة تعيد للسودان مكانته المفقودة وتفتح أمامه أبواب المستقبل باتساع مكنوزه وثرواته.

لقد آن الأوان أن يدرك صانع القرار السوداني أن القوة الناعمة ليست ترفًا، بل هي سلاح استراتيجي قد يسبق في تأثيره البندقية والدبلوماسية. فالأمم تُعرَف بما تقدمه من فنون وفكر وصورة للعالم، قبل أن تُعرَف بما تملكه من جيوش ومعادن. والسودان الذي أنهكته الحروب والأجندات الخارجية والانقسام الداخلي ، يمكنه أن يجد في الإعلام والثقافة والسياحة جسرًا للخروج من الأزمات وبوابةً إلى اقتصاد جديد وهوية جامعة وصورة مشرقة تعيد الثقة في الوطن. فرصة تتيحها الأقدار والتحديات الي صديقي الهمام الوزير خالد الاعيسر، ليجسد ويترجم بطاقم وزارته الأهداف والغايات الكبرى من وراء هذا التكليف، ويضيف منجزا وطنيا له مرتكزاته ليغير هذا الواقع وصورته النمطية.و على قيادة الدولة ان تعينه بالموارد المالية اللازمة والكادر المستبصر والثبور والمعطاء ، لاستدامة هيكلها لتحقيق كل غاية وهدف من وراء هذه الثلاثية يضرب بها المثال .

فإذا كان الماضي قد فرّق هذه القطاعات وشتّت جهودها، فإن المستقبل قد جمعها بفهم لا يحتمل الترف التنظيمي ولا التجريب العشوائي. إن دمج الإعلام والثقافة والسياحة في رؤية واحدة ليس مجرد اجتهاد عابر ، بل هو نداء وطني عاجل لاستثمار القوة الكامنة في السودان وإطلاقها للعالم بمنهج واثق و جريء. من يملك القدرة على أن يحكي قصته ويفرض هويته ويعرض جماله، يملك القدرة على أن يصنع مصيره ، فلنجعل من هذه الوزارة الوليدة حلم البلاد من خلال رافعة الامل الذي ننشده جميعا.
————
٢٣ اغسطس ٢٠٢٥م .

اترك رد

error: Content is protected !!