من اعماقي / د. امجد عمر

الألم الذي لا يكسرنا يصنعنا

د. أمجد عمر محمد

في مسيرة الحياة، لا أحد ينجو من المصاعب، ولا أحد يعبرها دون أن تلامس روحه شيءٌ من الألم أو تنقش في قلبه ملامح التجربة. لكن المدهش في الأمر أن كثيرًا من تلك الأيام التي بدت في ظاهرها كأنها ستكسرنا، كانت في حقيقتها تصنع منا شخصًا أقوى، أكثر وعيًا، وأشد صلابة في مواجهة تقلبات الحياة.

الشدائد لا تأتي عبثًا، بل كثيرًا ما تكون تمهيدًا لترقية روحية أو نضج نفسي أو بصيرة تنفتح على مدًى أبعد. قال الله تعالى في محكم تنزيله: “فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا” [النساء: 19]، وهذه الآية وحدها تكفي لتجعلنا نعيد النظر في كل تجربة ألم مررنا بها. فكم من محنة كانت منحة، وكم من طريق ضيق فتح لنا أبوابًا ما كنا لنصل إليها لولا عثرات البداية.

النبي محمد صلى الله عليه وسلم مرّ بأعظم أنواع الابتلاء؛ من فَقْدٍ للأحبة، واضطهاد، وحصار، وخذلان، لكنه لم ينكسر، بل ازداد قوة وصبرًا، حتى صار القدوة المثلى في الثبات أمام الأزمات. روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه”. فالألم في ميزان الإيمان ليس عبئًا، بل وسيلة تطهير وارتقاء.

وإذا ما قلبنا صفحات التاريخ السوداني، سنجد أن المحن الكبرى التي مر بها السودان لم تُضعف إرادة أهله، بل جعلتهم أكثر ترابطًا وصلابة. في المهدية مثلًا، حين حوصرت الخرطوم، واشتدت المحن، خرج من رحم الأزمة رجال صقلتهم الشدة، وحملوا رايات التحرير والوحدة. ومن رحم معاناة الاستعمار وُلد وعي شعبي عظيم، قاد إلى الاستقلال وبناء الدولة. وحتى في المحن الاقتصادية والسياسية اللاحقة، ظل الإنسان السوداني ينهض من رماد الأزمة، حاملًا جذوة الأمل والتجدد.

لا يمكننا أن نختار دائمًا ما يحدث لنا، لكن يمكننا أن نختار كيف نردّ عليه. بين كل خيارين، هناك خيار ثالث لا يراه إلا من تأمل وتفكر: أن نجعل من الألم درسًا، ومن الفقد بصيرة، ومن الانكسار فرصة لبناء ذات لا تقهرها العواصف.

إن الأيام التي تُظهر ضعفنا، هي ذاتها التي تكشف لنا عن كنوز قوتنا المدفونة. فلكل جرح حكمة، ولكل وجع أثر، ولكل انكسار بداية لصعود جديد. وبينما يختبرنا الله سبحانه، يمنحنا – إن أحسنا الظن – مفاتيح النضج، وأدوات البقاء، وشجاعة النهوض.

ختامًا، علينا أن نعيد تعريف المحن في عقولنا. فهي ليست نهاية، بل بداية أخرى نُبعث فيها أقوى، وأصفى، وأقدر. تلك الأيام التي “تُكسرنا”، لا تفعل ذلك عبثًا، بل لأنها تحفر فينا دربًا نحو الصلابة. وسوف ينهض السودان من محنته أقوى مما كان، أكثر وعيًا، أشد تماسكًا، بإذن الله، وسيكتب تاريخه القادم بمداد الصبر والثبات والعزيمة.

اترك رد

error: Content is protected !!