
في هذا العصر الذي غدت فيه التقنية سيد الموقف، لم يعد الهاتف المحمول مجرد أداة اتصال تُستدعى عند الحاجة، بل تحوّل إلى نافذة واسعة على العالم، ينفتح من خلالها الفرد على شتى الثقافات والأحداث والناس. إن شاشته الصغيرة تختزن من القدرة على التغيير ما لم تكن تحمله في السابق أكبر المنابر الإعلامية، فيكفي لمسة إصبع واحدة، ليولد خير عظيم أو يحدث شرٌ مستطير.
إن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أشبه بنهرٍ هائج، من أدرك مجراه واستثمره بوعيٍ، كان له معينًا في نشر النفع ومد يد العون وإشاعة الكلمة الطيبة، ومن جرى معه بلا ضابطٍ ولا وعيٍ، جرفه تياره إلى حيث لا يُحمد المآل. إننا نرى كيف صارت هذه المنصات وسيلةً لإنقاذ الأرواح، وتسهيل السُبُل، وحشد التبرعات، ومساندة الضعفاء، وكأن الإنسان بلمسةٍ يزرع أملًا في مكانٍ ويجبر خاطرًا في مكانٍ آخر.
وفي المقابل، يكفي مثالٌ واحدٌ لنفهم كيف قد يتحوّل هذا الخير إلى أداةٍ للهدم: صورةٌ تُلتقط بلا إذن، أو إشاعةٌ تُطلق بلا تثبّت، أو كلمةٌ ساخرةٌ تتداولها الصفحات، فتُدمّر بيوتًا، وتُزهق كرامةً، وتُثقل أرواحًا لا ذنب لها سوى أنها وُضعت في مرمى الاستهتار.
إن هذا الجهاز الصغير الذي نحمله في جيوبنا أو نضعه قرب رؤوسنا ليس ملكًا شخصيًا محضًا، بل هو أمانةٌ بين أيدينا، نُسأل عنها أمام الله وأمام ضمائرنا ومجتمعاتنا. فما تحفظه من صور، وما تكتبه من كلمات، وما ترسله من مقاطع، قد يكون سلاحًا طائشًا أو جسر نجاة.
وإن من تمام الوعي بهذه الأمانة أن تبدأ من البيوت؛ فعلى الآباء والأمهات أن يعلموا أن الهاتف أو الحاسوب أو الأجهزة اللوحية أو حتى أجهزة الألعاب الإلكترونية مثل البلايستيشن، ليست مجرد وسائل ترفيه. ففي طياتها محتوى قد يحمل نفعًا عظيمًا وقد ينسف قيمًا ويغرس في الأبناء ما لا يُحمد عاقبته. ولطالما اشتملت بعض الألعاب على مشاهد وأفكار تخرج عن الأطر الأخلاقية والقيمية.
لذلك، ينبغي أن يُدرك الوالد قبل أن يضع هذه الأجهزة في يد ابنه، أين وماذا ولمن؟ ما الصفحات التي يتابعها؟ وما المضامين التي يشاركها؟ وكيف يُوجّه فضوله؟ إن التربية في هذا العصر لم تعد منعًا مطلقًا، بل توعيةٌ ومرافقةٌ وفهم. ولعلنا نستلهم هنا قول الله جلّ شأنه:
“وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا”.( الإسراء ٣٦)
ونتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم في المقدمة 6 صحيح الجامع4482 .)،
ليكون هذا الهدي لنا ميزانًا في ما نسمع وننشر ونشارك.
إن مسؤولية الفرد في هذا الفضاء الرحب هي أن يكون حارسًا لما يمر من بين يديه، فلا يضغط على زر الإعجاب إلا لما يستحق، ولا يشارك إلا ما ينفع أو يبني أو يصلح. فليس كل ما يُشاهد جديرًا بالنقل، ولا كل صورةٍ خليقٌ بأن تُنشر، ولا كل خبرٍ يليق أن يُعمم قبل تثبّته. فلنكن أصحاب بصيرة، نستخدم هذه الأدوات لنشر العلم، ومساندة الضعفاء، ونصرة المظلوم، وبثّ الأمل في الأرواح.
في الختام، تذكّر أنّ هاتفك، وحاسوبك، وأي جهازٍ في يدك هو أمانة ثقيلة ومسؤولية جليلة. اجعل ما يُكتب من خلاله وما يُشارك عبره مما يرفعك لا مما يهوي بك، وليكن بوابتك إلى الخير ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.