الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

إعادة تشكيل المشهد السوداني بين الإرادة الوطنية والمشاريع الخارجية

محمد الحاج


في ظل واقع سياسي مضطرب، يعيش السودان لحظة فارقة تتطلب مراجعة شاملة و حازمة للمسارات المطروحة باسم السلام. فالمشهد الراهن لا يُدار فقط بالبندقية، بل يُعاد تشكيله داخل قاعات الحوار، وورش العمل، والندوات التي تُعقد تحت شعارات منظمات دولية، بعضها يحمل أجندات لا تمتّ بصلة إلى تطلعات الشعب السوداني. وبينما تتسارع الأحداث في مدينة بورتسودان، وتُطرح مبادرات سياسية تحمل توقيع جهات خارجية، يغيب العلم السوداني عن المنصات، ويُرفع شعار الاتحاد الأوروبي ومنظمة بروميديشن، في مشهد يُثير تساؤلات عميقة حول من يملك زمام المبادرة، ومن يُمثّل الإرادة الوطنية فعلًا.

ما يدور داخل العملية السياسية اليوم لا يمكن فصله عن محاولات إعادة تدوير المشروع الخارجي، الذي فشل عسكريًا عبر مليشيا الدعم السريع، ويحاول الآن أن يجد موطئ قدم سياسي عبر قوى أُعيد تقديمها تحت مسميات جديدة. التواصل بين بعض القوى السياسية ومنظمة بروميديشن، التي تنشط في بورتسودان، يطرح علامات استفهام حول طبيعة هذا التنسيق وأهدافه، خاصة في ظل غياب أي تمثيل رمزي للسيادة الوطنية، وفي ظل تاريخ الاتحاد الأوروبي في تبني مسارات تفاوضية هدفت في أكثر من مناسبة إلى إضعاف الجيش السوداني، وذلك من خلال دعمه لأجندات سياسية لقوى مدنية تم رفضها شعبيًا، مثل “تقدم” و”صمود”، ومحاولته دمج المسارين السياسي والعسكري بطريقة تُعيد إنتاج الأزمة بدلًا من حلها.

وإذا كان لا بد من إدارة حوار داخلي، فإن الأجدر والأكثر صدقًا هو أن تتولى القوى الوطنية والكيانات التي تمثل المجتمع المدني والشعب السوداني فتح مسار حوار سوداني–سوداني، من خلال إيجاد آليات توافقية داخلية ومنصات وطنية، ليكون هو الأساس لأي حل سياسي يُعبّر عن الإرادة الشعبية. فالمكونات الوطنية، من أطراف السلام إلى الموقعين على الوثيقة الدستورية، لا يحتاجون إلى تنسيق أو تواصل مع قوى مدنية ارتبطت بمشاريع خارجية أو فقدت ثقة الشارع السوداني.

ولنكن أكثر وضوحًا: إن ما يغيب عن العملية السياسية ليس الحوار في حد ذاته، بل غياب الإرادة الحقيقية لإنتاج مشروع وطني داخلي، مبني على الحد الأدنى من التوافق بين المكونات المدنية والسياسية. وكما هو معلوم، ما زالت الساحة السياسية مشحونة بحالة من الاستقطاب الحاد، والتمترس خلف مشاريع تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة لإنتاج رؤية وطنية جامعة. لذلك، فإن تجديد الروح في العملية السياسية بات ضرورة، واستعادة البوصلة نحو إنتاج مشروع وطني يُمثّل تطلعات الشعب السوداني في استعادة الديمقراطية الشعبية، يجب أن يتم عبر توافق مرحلي يجمع كل مكونات المجتمع السوداني حول طاولة مستديرة، تُفضّل المصلحة العليا، وتطرح رؤية واضحة لتحديد هوية المشروع الوطني، والتوافق على أجندته الأساسية، بما يدعم مؤسسات الدولة الوطنية، وعلى رأسها الجيش، للانطلاق بالسودان نحو مستقبل يحقق تطلعات شعبه، ويقود إلى إصلاح داخلي حقيقي، وصولًا إلى انتخابات حرة ونزيهة.

إن شروط الحوار المطروحة، والتي يجب أن تتبناها جميع المكونات السياسية، ينبغي أن تكون واضحة وصريحة: حوار لا يُقصي أحدًا إلا من تسبب في الضرر المباشر للشعب السوداني، ولا يُدار إلا تحت مظلة السيادة الوطنية، وبأدوات داخلية خالصة.

فالسودان اليوم لا يحتاج إلى شعارات مستوردة، بل إلى رموزه الوطنية، ومسار سياسي منضبط، نابع من الداخل، يحفظ السيادة ويُحقق السلام الحقيقي. وكل محاولة لتجاوز هذا الأساس، أو لتدوير الأزمة عبر واجهات دولية، لن تُنتج إلا مزيدًا من التعقيد والانقسام، وتُهدد الأمن القومي وتُضعف تماسك الدولة.

محمد الحاج
٧ أكتوبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!