الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

إستراتيجية العلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية ومآلات أمن واقتصاد الدول المشاطئة للبحر الأحمر (1)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

يُعدّ البحر الأحمر أحد أهم الممرات المائية الاستراتيجية في النظام الدولي، ليس فقط لاعتباره معبرًا رئيسيًا يربط بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، بل لكونه يمثل خطًا حيويًا للتجارة العالمية، حيث تمر عبره ما يقارب 12% من تجارة العالم، بما في ذلك إمدادات الطاقة من الخليج إلى أوروبا وأمريكا. هذا الموقع الجيوستراتيجي أكسبه أهمية متزايدة، جعلته مجالًا لتنافس القوى الكبرى والإقليمية، ومحورًا للتفاعلات الأمنية والاقتصادية.

في هذا السياق، يتداخل الاقتصادي والأمني في معادلة البحر الأحمر بشكل لا يمكن فصلهما، حيث تتحول المشاريع التنموية البحرية إلى رهائن للترتيبات الأمنية، بينما يشكل الأمن البحري شرطًا مسبقًا لازدهار أي نشاط اقتصادي. ومن هنا تأتي أهمية دراسة “إستراتيجية العلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية”، واستشراف مآلاتها بالنسبة للدول المشاطئة، مع اتخاذ إسرائيل ومشروع نيوم السعودي كنموذج تطبيقي لفهم ديناميات هذه المعادلة المركبة.

الإطار النظري للعلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية :

1.المفهوم العام للعلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية:

العلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية ليست مجرد تداخل عابر بين الاقتصاد والأمن، بل هي منظومة تفاعلات إستراتيجية تعكس حقيقة أن البحر لم يعد مجرد مسرح للنقل التجاري أو النشاط العسكري، بل فضاءً مركّبًا تتشابك فيه المصالح الاقتصادية بالضرورات الأمنية.

فالعلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية هي صيغة من التفاعلات التي تربط بين المصالح الاقتصادية (التجارة، الموانئ، الطاقة، الاقتصاد الأزرق) والضرورات الأمنية (حماية السيادة، ضمان حرية الملاحة، مكافحة التهديدات البحرية).
هذه العلاقة تستند إلى مفهوم “الأمن الاقتصادي” في نظريات العلاقات الدولية، حيث يُنظر إلى الاقتصاد ليس فقط كأداة للرفاه، بل كركيزة للنفوذ السياسي والأمن القومي. و من هنا تبرز عدة ابعاد نلخصها في الآتي :

أ. البعد الاقتصادي:

يشمل التجارة الدولية التي تمر عبر الممرات البحرية، حيث يعتمد الاقتصاد العالمي بشكل جوهري على سلامة خطوط الملاحة.

الموانئ البحرية باتت بمثابة “عصب الاقتصاد الوطني” لأي دولة مشاطئة، فهي منصات للتجارة البينية والعالمية.

الموارد البحرية (الثروة السمكية، الطاقة البحرية، المعادن في قاع البحار) أصبحت جزءًا من الاقتصاد الأزرق الذي يشكل موردًا بديلًا ومستقبليًا.

ب. البعد الأمني:

حماية السيادة الوطنية في مواجهة التهديدات البحرية (قرصنة، إرهاب، تهريب، نزاعات بحرية).

تأمين الممرات البحرية الدولية، والتي يُعدّ أي خلل فيها تهديدًا مباشرًا لسلاسل الإمداد العالمية.

ضمان استقرار الاستثمارات الساحلية والبحرية، إذ لا يمكن لأي مشروع اقتصادي ضخم أن ينجح دون مظلة أمنية قوية.

ج. الاستناد إلى مفهوم “الأمن الاقتصادي”:

في نظريات العلاقات الدولية، الأمن الاقتصادي يُعتبر امتدادًا للأمن القومي، حيث لم يعد الأمن محصورًا في البعد العسكري، بل أصبح يشمل قدرة الدولة على تأمين تدفق الموارد، حماية استثماراتها، وضمان حصتها في التجارة العالمية.

الأمن الاقتصادي البحري يمثل بُعدًا نوعيًا، لأنه يربط مباشرة بين السيطرة على الممرات البحرية و مكانة الدولة في النظام الدولي.

د. النتيجة الإستراتيجية:

تتحول البحار إلى مسارح نفوذ مركبة: من يسيطر على الموانئ والممرات، يملك أدوات ضغط اقتصادي وسياسي.

العلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية أصبحت إحدى صور “القوة الذكية” (Smart Power)، حيث يتم الدمج بين الاقتصاد كوسيلة للإقناع والجذب، والأمن كوسيلة للحماية أو الردع.

2.المحددات الرئيسية للاستراتيجية:

إن صياغة أي إستراتيجية للعلاقات الاقتصادية – الأمنية البحرية في البحر الأحمر تتأثر بعدد من المحددات الرئيسة التي تحدد فرص الدول المشاطئة وحدود حركتها:

أ. الجغرافيا البحرية:

طول السواحل: كلما زاد طول الساحل زادت الأعباء الأمنية الملقاة على الدولة، لكنها في الوقت نفسه تزيد من إمكاناتها الاقتصادية (موانئ أكثر، مناطق صيد أوسع، فرص للاستثمار الساحلي). على سبيل المثال، السودان يمتلك واحداً من أطول الأفريقية على البحر الأحمر (أكثر من 750 كلم)، ما يمنحه إمكانات هائلة، لكن ذلك يتطلب موارد ضخمة لحمايته وتأمينه.

عمق الموانئ: الموانئ العميقة (مثل بورتسودان، جيبوتي) قادرة على استقبال السفن العملاقة، وهو ما يجعلها نقاط جذب اقتصادي ولوجستي، لكنه أيضًا يجعلها أهدافًا إستراتيجية حساسة تتطلب حماية أمنية عالية المستوى.

الإشراف على الممرات: موقع الدولة قرب المضايق والممرات (مثل مصر عند قناة السويس، اليمن عند باب المندب) يمنحها ورقة ضغط عالمية، لكنه في المقابل يجعلها عرضة للابتزاز والضغوط الدولية للحفاظ على أمن الملاحة.

ب. القدرات الوطنية:

القوة البحرية العسكرية: حجم الأساطيل البحرية وتسليحها وتدريبها، ومدى قدرتها على فرض السيادة في مياهها الإقليمية، أو المشاركة في عمليات أمنية إقليمية.

نظم المراقبة والسيطرة: امتلاك أنظمة رادار متقدمة، وأقمار صناعية، وقدرات استخباراتية بحرية، يضاعف من قدرة الدولة على كشف التهديدات والتعامل معها قبل تحولها إلى أزمات.

القدرات اللوجستية: البنية التحتية (ورش صيانة السفن، أحواض بناء وإصلاح، قدرات تموين)، تمثل شرطًا أساسيًا لاستدامة أي قوة بحرية، وأيضًا عنصر جذب اقتصادي للاستثمارات والشراكات البحرية الدولية.

ج. العوامل الدولية:

عسكرة البحر الأحمر: شهدت المنطقة في العقدين الأخيرين انتشارًا غير مسبوق للقواعد العسكرية الأجنبية. ففي جيبوتي وحدها توجد قواعد أمريكية، فرنسية، صينية، ويابانية. كما أن الإمارات وتركيا أقامتا منشآت عسكرية في إريتريا واليمن.

الممرات الدولية: اعتماد أوروبا وآسيا على البحر الأحمر يجعل القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) معنية مباشرة بضمان أمنه، ما يضع الدول المشاطئة في قلب معادلة جيوسياسية دولية تتجاوز قدراتها الذاتية.

التنافس الدولي – الإقليمي: البحر الأحمر أصبح ساحة لتجاذب استراتيجي بين مبادرات متعارضة (مثل الحزام والطريق الصيني، مقابل التحالفات الغربية).

د. البيئة الإقليمية:

النزاعات الداخلية: الحرب في السودان، النزاع في اليمن، هشاشة الدولة في إريتريا والصومال، جميعها عوامل تُضعف قدرة هذه الدول على حماية سواحلها، وتجعلها عرضة للتدخلات الخارجية.

التوترات الإقليمية: الخلافات الحدودية (مثل النزاعات البحرية بين اليمن وإريتريا سابقًا) أو التنافس السياسي (بين مصر وإثيوبيا حول النفوذ الإقليمي) تضيف طبقة من التعقيد للعلاقات الأمنية – الاقتصادية البحرية.

التهديدات غير التقليدية: مثل القرصنة قبالة سواحل الصومال سابقًا، والهجرة غير الشرعية عبر البحر الأحمر إلى الخليج، والتهريب (أسلحة، مخدرات، بشر)، والتي تفرض تحديات مستمرة للأمن البحري.

3.النتائج المترتبةعلى التداخل الاقتصادي-الامني:

إن التداخل بين البعدين الاقتصادي والأمني في البحر الأحمر يفرز نتائج إستراتيجية مباشرة تؤثر على الدول المشاطئة وعلى الإقليم بأسره، ويمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسة:

أ. الأمن البحري كشرط للاستثمار:

لم يعد الاستثمار البحري أو الساحلي مجرد قرار اقتصادي مستقل، بل أصبح مرهونًا بمدى قدرة الدولة على تأمين سواحلها وموانئها وخطوط الملاحة.

الشركات العالمية – خصوصًا في مجالات النقل البحري والطاقة واللوجستيات – تضع معيار “المخاطر الأمنية” كأولوية قبل الدخول في أي استثمار. فالمناطق التي تعاني من تهديدات القرصنة أو الإرهاب أو الحروب (مثل سواحل اليمن والصومال) غالبًا ما تُستبعد من خطط الاستثمار الكبرى.

هذا يعني أن أي دولة مشاطئة لا تستطيع توفير بيئة بحرية آمنة، ستُحرم تلقائيًا من فرص الاستثمار، حتى وإن كانت تملك موقعًا جغرافيًا استثنائيًا.

ب. الاقتصاد البحري كأداة لإعادة هندسة النفوذ الإقليمي:

الاقتصاد البحري لم يعد مجرد نشاط تنموي، بل أصبح أداة قوة ناعمة وصلبة في الوقت نفسه. فمن يسيطر على الموانئ والممرات يملك القدرة على فرض شروطه الاقتصادية والسياسية على الآخرين.

على سبيل المثال، تطوير السعودية لمشروع نيوم أو استثمارات الإمارات في موانئ إريتريا واليمن، ليس هدفه اقتصاديًا فحسب، بل يهدف إلى إعادة تشكيل موازين القوى في البحر الأحمر عبر فرض نفوذ طويل الأمد.

هذا يجعل من المشاريع الاقتصادية الكبرى أداة لإعادة توزيع النفوذ بين الدول المشاطئة، ويفسر سبب تسابق القوى الدولية والإقليمية على الاستثمار في الموانئ واللوجستيات البحرية.

د. هشاشة الدول الضعيفة كمدخل للتدخلات الخارجية:

الدول التي تعاني من حروب أهلية أو ضعف مؤسساتي (مثل السودان واليمن وإريتريا) تصبح أكثر عرضة للاختراق الخارجي.

ضعف القدرات البحرية والأمنية لهذه الدول يسمح للقوى الأجنبية بملء الفراغ، سواء عبر إنشاء قواعد عسكرية أو السيطرة على الموانئ أو التأثير على القرارات السيادية.

على سبيل المثال، جيبوتي أصبحت مسرحًا لتعدد القواعد الأجنبية (أمريكية، صينية، فرنسية، يابانية)، وهو ما يعكس عدم قدرتها منفردة على حماية موقعها الاستراتيجي.

بالتالي، تتحول هشاشة الدول إلى فرصة للقوى الكبرى لإعادة إنتاج نفوذها عبر البوابة الاقتصادية والأمنية البحرية.

مآلات الأمن والاقتصاد في الدول المشاطئة للبحر الأحمر

1.الفرص المتاحة:

رغم التحديات الأمنية والسياسية، فإن البحر الأحمر يتيح للدول المشاطئة فرصًا تنموية هائلة، يمكن أن تُحوِّله من “ساحة صراع” إلى “فضاء و بحيرة تكامل اقتصادي كبرى”. وأهم هذه الفرص تتمثل في:

أ. تعزيز التكامل التجاري عبر الموانئ:

الموانئ هي البوابات الرئيسية للتجارة العالمية والإقليمية. فموانئ مثل بورتسودان (السودان)، جدة الإسلامي (السعودية)، السويس (مصر)، وجيبوتي، تمثل محطات استراتيجية على واحد من أكثر طرق الملاحة كثافة في العالم.

تطوير التكامل بين هذه الموانئ عبر شبكات لوجستية متصلة (خطوط ملاحية، مناطق حرة، أنظمة جمركية موحدة) يمكن أن يحوّل البحر الأحمر إلى سوق إقليمي موحد، ويجعل التجارة بين إفريقيا وآسيا أكثر سرعة وأقل تكلفة.

مثال: ربط بورتسودان بعمق السودان وإفريقيا (إثيوبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى) عبر سكك حديد وطرق، سيجعل الميناء محورًا تجاريًا إقليميًا، لا مجرد بوابة وطنية.

ب. الاستثمار في الاقتصاد الأزرق:

البحر الأحمر يملك إمكانات ضخمة في مجال الثروة السمكية التي لا تزال غير مستغلة بشكل فعّال، وهو ما يمكن أن يوفر موردًا اقتصاديًا متجددًا، وفرص عمل واسعة.

السياحة البحرية والساحلية تمثل مجالًا واعدًا، من الغوص والشعاب المرجانية في سواحل مصر والسعودية والسودان، إلى السياحة الدينية (الحج والعمرة عبر الموانئ البحرية).

الطاقة المتجددة البحرية (الرياح، الشمس، والأمواج) تشكّل مجالًا استراتيجيًا، خصوصًا مع توجه العالم نحو الطاقة النظيفة. مشاريع مثل نيوم في السعودية تُظهر كيف يمكن دمج الطاقة المتجددة مع التنمية البحرية.

ج. تطوير شبكات البنية التحتية العابرة:

لا قيمة لأي ميناء أو نشاط بحري دون وجود بنية تحتية متكاملة تربطه بعمقه البري. وهذا يشمل:

شبكات طرق سريعة تصل الموانئ بالمدن الداخلية.

سكك حديد إقليمية تعزز الربط بين الدول المشاطئة والداخل الإفريقي.

مناطق لوجستية وصناعية حرة في محيط الموانئ، لتقليل تكاليف النقل وزيادة القيمة المضافة.

على سبيل المثال، مشروع الممر الاقتصادي المصري – السعودي – السوداني المقترح يمكن أن يجعل البحر الأحمر مركزًا لوجستيًا عالميًا، يربط بين ثلاث قارات (إفريقيا، آسيا، أوروبا).

إن هذه الفرص – إذا ما استُثمرت بشكل متكامل – يمكن أن تحول البحر الأحمر إلى منطقة ازدهار اقتصادي مشترك بدلًا من أن يبقى مجرد مسرح صراع. لكن استثمار هذه الفرص يتطلب:

استقرارًا سياسيًا وأمنيًا.

تنسيقًا إقليميًا بدلًا من التنافس والتجزئة.

شراكات دولية عادلة تضمن مصالح الدول المشاطئة ولا تضعها تحت رحمة القوى الكبرى.

2.التحديات الأمنية بالبحر الأحمر:

رغم الإمكانات الاقتصادية الهائلة للبحر الأحمر، إلا أن بيئته الأمنية تواجه جملة من التحديات المتشابكة، التي تعيق الاستثمار وتُبقي المنطقة عرضة للتدخلات الخارجية. أهم هذه التحديات:

أ. تزايد التهديدات غير التقليدية:

القرصنة البحرية: برزت بشكل كبير في العقدين الماضيين قبالة السواحل الصومالية، وامتدت تأثيراتها إلى باب المندب وخليج عدن. ورغم تراجعها نسبيًا، إلا أن ضعف الدول الساحلية يجعل عودتها ممكنة في أي وقت.

الإرهاب البحري: تنظيمات مثل “القاعدة في جزيرة العرب” و”داعش” حاولت استهداف الممرات البحرية أو الموانئ، بما يشكل تهديدًا مباشرًا للتجارة الدولية.

التهريب المنظم: يشمل تهريب البشر (الهجرة غير الشرعية من القرن الإفريقي إلى اليمن والخليج)، وتهريب الأسلحة والمخدرات، ما يحول البحر الأحمر إلى ممر غير شرعي موازٍ للتجارة العالمية.

الهجرة غير الشرعية: تشكل ضغطًا إنسانيًا وأمنيًا، وتزيد من معدلات الجريمة المنظمة، فضلًا عن انعكاساتها الاجتماعية والسياسية على الدول المستقبِلة.

ب. عسكرة البحر الأحمر:

تحول بعض الموانئ الاستراتيجية إلى قواعد عسكرية للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، الصين، فرنسا، وروسيا، إضافة إلى تركيا والإمارات.

هذه القواعد، رغم أنها تُبرَّر بحماية الملاحة، إلا أنها تعكس سباقًا للسيطرة والنفوذ، ما قد يحول البحر الأحمر إلى ساحة صراع بين القوى الكبرى.

مثال: جيبوتي التي أصبحت الدولة الوحيدة في العالم التي تستضيف قواعد لأكثر من خمس قوى عسكرية عالمية في وقت واحد.

عسكرة البحر الأحمر لا تهدد فقط حرية الملاحة، بل قد تؤدي إلى تقييد سيادة الدول المشاطئة وتحويلها إلى مجرد أدوات ضمن استراتيجيات القوى الكبرى.

ج. هشاشة الدولة الوطنية في بعض الأقاليم:

اليمن: الحرب المستمرة جعلت من سواحله الجنوبية والغربية مناطق رخوة أمنيًا، ما فتح الباب أمام الحوثيين لتهديد الملاحة في باب المندب، وأمام القوى الإقليمية لإقامة قواعد ونقاط نفوذ.

السودان: الحرب الداخلية وانقسام الدولة جعلت من موانئه ومناطقه الساحلية مناطق معرضة للتنافس الدولي، مع احتمالات فقدان السيطرة الوطنية الكاملة.

إريتريا: رغم موقعها الحيوي، إلا أنها تفتقر إلى الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي، ما يجعلها عرضة للنفوذ الخارجي، كما حدث مع استثمارات وقواعد إماراتية وتركية سابقة.

القرن الإفريقي عمومًا: يعاني من هشاشة مؤسساتية، وصراعات داخلية، ونقص في القدرات البحرية، ما يحول المنطقة إلى “هامش استراتيجي” يمكن استغلاله من القوى الكبرى.

هذه التحديات تجعل البحر الأحمر فضاءً أمنيًا هشًا، حيث:

التهديدات غير التقليدية تعرقل التجارة وتزيد المخاطر.

عسكرة البحر الأحمر تعكس صراع القوى الكبرى على حساب السيادة الوطنية.

هشاشة الدول تفتح الباب لمزيد من التدخلات الإقليمية والدولية.

وبالتالي، فإن معالجة هذه التحديات تتطلب إستراتيجية إقليمية شاملة تقوم على التعاون الأمني البحري، وبناء القدرات الوطنية، وتحييد البحر الأحمر عن كونه مجرد ساحة تنافس دولي.

3.المعادلة الإقليمية بالبحر الأحمر:

يُفترض أن البحر الأحمر، بصفته ممرًا مائيًا يربط بين ثلاث قارات، يكون مجالًا للتعاون والتكامل بين الدول المشاطئة الثماني، لكن الواقع يكشف عن غياب رؤية تكاملية مشتركة، ما جعل المنطقة مفتوحة لتدخلات القوى غير المشاطئة، وتحوّلها إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي.

أ. غياب الرؤية التكاملية بين الدول المشاطئة:

الدول الإفريقية (مصر، السودان، إريتريا، جيبوتي) والدول الآسيوية (السعودية، اليمن، الأردن، إسرائيل) تتحرك غالبًا وفق مصالح وطنية ضيقة، بدلًا من صياغة إطار جماعي متكامل لإدارة البحر الأحمر.

غياب التنسيق أدى إلى تضارب في السياسات البحرية (مثل التنافس على جذب الاستثمارات في الموانئ بدل التكامل بينها).

ضعف الأطر المؤسسية: رغم بعض المبادرات (مثل مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تأسس 2020)، إلا أن هذه الكيانات لا تزال محدودة الفاعلية، ويفتقر أغلبها إلى آليات تنفيذية واضحة.

ب. تنامي نفوذ القوى غير المشاطئة:

إسرائيل: تسعى لتوظيف وجودها في إيلات لتعزيز حضورها الأمني والاقتصادي في البحر الأحمر، مستخدمة التطبيع والعلاقات الاقتصادية كمدخل للنفوذ الأمني.

الإمارات: تبنت إستراتيجية “القوة عبر الموانئ”، عبر السيطرة أو الاستثمار في موانئ إريتريا واليمن والسودان، ما جعلها فاعلًا مؤثرًا رغم كونها غير مشاطئة مباشرة إلا عبر البحر العربي.

تركيا: وظفت نفوذها الأيديولوجي والسياسي في القرن الإفريقي (الصومال) ،كما حاولت و لا تزال في السودان لبناء موطئ قدم على سواحل البحر الأحمر.

إيران: دخلت من بوابة اليمن عبر دعم الحوثيين، ونجحت في تحويل باب المندب إلى ورقة ضغط إستراتيجية ضد خصومها الخليجيين والدوليين.

ج. انعكاسات الخلل في المعادلة الإقليمية:

تراجع الدور الإفريقي: الدول الإفريقية المشاطئة، خصوصًا السودان وإريتريا، أصبحت أقل قدرة على فرض أجندتها أو حماية مواردها البحرية.

تحول البحر الأحمر إلى “مسرح تنافس” بدل أن يكون “مجال تكامل”: فبدلًا من أن تستفيد هذه الدول من موقعها، أصبحت سواحلها منصات للقوى الأجنبية.

ضعف الاستفادة من الموقع الجغرافي: في ظل غياب تنسيق إقليمي، تتحول المكاسب الاستراتيجية إلى الآخرين، بينما تتحمل الدول المشاطئة أعباء التحديات (التهديدات، الهشاشة الأمنية، النزاعات).

إن المعادلة الإقليمية الحالية مختلة، حيث يفتقد البحر الأحمر إلى منظومة أمنية – اقتصادية جماعية تنظم مصالح الدول المشاطئة، ما جعله ساحة مفتوحة لتدخلات قوى غير مشاطئة تمتلك رؤية واضحة واستراتيجيات طويلة الأمد.
والنتيجة أن الدول الإفريقية المشاطئة، رغم امتلاكها أطول السواحل وأكثر الموارد، تبقى الأضعف حظًا في استثمار موقعها الحيوي، بسبب غياب التنسيق الإقليمي، وافتقارها إلى قدرات وطنية مستقلة.

إن استعراض الأبعاد النظرية والمحددات الإقليمية والفرص والتحديات المرتبطة بالعلاقات الاقتصادية – الأمنية في البحر الأحمر، يكشف بوضوح أن هذه المنطقة لم تعد مجرد ممر مائي للتجارة العالمية، بل تحولت إلى ساحة لتقاطعات معقدة بين الاقتصاد والأمن والسياسة. فهي فضاء استراتيجي يشهد في آن واحد فرصًا هائلة للتكامل، ومخاطر متزايدة من التدخلات والتجاذبات الإقليمية والدولية.

وبالرغم من أن الدول المشاطئة – خاصة الإفريقية منها – تملك مقومات جغرافية وموارد طبيعية وبشرية كبيرة، إلا أن ضعف الرؤية الإستراتيجية المشتركة وانكشاف البنية الأمنية والسياسية جعلها أقل قدرة على توظيف موقعها لصالح التنمية المستدامة، وأكثر عرضة للتحول إلى مجرد هوامش لصراعات الآخرين.

ومن هنا، فإن فهم معادلة البحر الأحمر لا يكتمل بمجرد تحليل العوامل النظرية أو التحديات العامة، بل يتطلب النظر في النماذج التطبيقية التي تجسد هذا التداخل الأمني–الاقتصادي في الواقع العملي. ويبرز في هذا السياق نموذجان رئيسيان:

إسرائيل التي انتقلت من هاجس تأمين منفذها البحري الوحيد في إيلات إلى بناء نفوذ متدرج عبر الاقتصاد والتكنولوجيا.

مشروع نيوم السعودي الذي يعكس طموحًا إقليميًا لتحويل البحر الأحمر إلى منصة عالمية للتنمية والابتكار، مع ما يحمله ذلك من تداعيات أمنية وجيوسياسية.

إن الجزء الثاني من هذا المقال سيخصص لمناقشة هذين النموذجين، وتحليل ما ينطويان عليه من فرص ومخاطر، قبل الانتقال إلى انعكاساتهما المباشرة على السودان والدول الإفريقية المشاطئة، واستشراف البدائل الإستراتيجية التي تمكّنها من التحول من موقع التابع إلى موقع الشريك الفاعل في صياغة مستقبل البحر الأحمر.

الثلاثاء 2 سبتمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!