
(العسيلة) من حيث اللفظ تنطق بضم ففتح فسكون. وهي من حيث المعنى تصغير لكلمة (العسلة) أي القليل من العسل . وقد اطلق اسمها على تلك الضاحية الهادئة التابعة لمركز (ابو عريش) بمنطقة جازان والتي غيض الله لي ان احط فيها رحالي حين قدمت اليها – قبل اشهر – من السودان عقب الحرب اللعينة ، زائراً .
وما ان استقر بي المقام في ربوعها الجميلة حتى تزاحمت في جوانحي الخواطر والتأملات والتداعيات اللفظية والمعنوية ، فامتلأت دهشة وحبوراً في آن..
بدأت الخواطر والتأملات تتداعى في ذهني بدءاً باسم (العسيلة) ذاته. فقد دهشت لورود الاسم مكرراً في مناطق اخرى من المملكة..
فهنالك (العسيلة) المنسوبة إلى محافظة وادي الدواسر بمنطقة الرياض . وهناك (حي العسيلة) بمدينة مكة المكرمة ثم (عسيلة) التابعة لمحافظة الدوادي بمنطقة الرياض ويسمونها ايضا (عسيلة الوسطى).
وزادت دهشتي حين قفزت إلي مخيلتي اسماء لبلدان وعشائر في بلادي (السودان) منسوبة إلى العسل تتقارب وتتماثل احيانا مع اخوات لها في المملكة.. فهناك ما يطابق جمع (العسيلة) في اسم قبيلة (العسيلات) السودانية التي تنسب إلي جدها (عٌسيل) والتي تقطن على ضفاف النيل الازرق جنوبي شرق الخرطوم..
وهناك مدينة (عسلاية) في ولاية النيل الابيض بجنوب غرب الخرطوم، وفيها مصنع كبير للسكر، فتأمل كيف التقت حلاوة العسل بمذاق السكر اللذيذ! ثم هناك قرية (حجر العسل) في شمال الخرطوم والتي يقال ان اسمها جاء من نوع من الحجارة يتوسط القرية يشبه في تكوينه ولونه كتلة من العسل وصفها الجيولوجيون بان من الصعب التصديق بانها مجرد قطعة صخرية نسبة للونها البني المشرب بلون الذهب اللامع حين تسقط عليه اشعة الشمس الحارقة. غير ان هناك تفسير اخر يقول ان اسم (حجر العسل) جاء من كونه جبل صغير (أي جبيل) كما ينطقه اهلنا في السعودية) اتخذه النحل بيتا لإقامة خلاياه ، ويستشهدون في هذا المقام بما جاء في الآيتين 68 و 69 من سورة النحل. كذلك استعار السودانيون كلمة (النحل) وجعلوها مضافا الي كلمة (قلع) التي تعني الاقتلاع والطرد والنزع (انظر
مادة: (قلع) في معجم المعاني الجامع ومعجم اللغة العربية المعاصرة) . فجاء الاسم المركب الذي هو (قلع النحل) ليعني تلك المدينة السودانية التي تقع جنوب غرب مدينة القضارف في شرق السودان والمشهورة بجبالها المأهولة بأسراب النحل وخلاياه. وبما ان الشيء بالشيء يذكر ، فقد
خطرت ببالي اسماء لمدن وبلدان سعودية مركبة علي نفس النسق وإن اختلفت لفظاً ومعنى، منها (حفر الباطن) و (رأس تنوره) و (دومة الجندل) وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ثم تداعت الخواطر فذهبت بي إلى التأمل في علاقة العسل بالشجر. فان النحل انما يتغذى برحيق ازهار الاشجار وحلو ثمارها ليخرج من بطونه شراب مختلف الوانه. ويجدر بي هنا أن اذكر أن الباحث السعودي ناصر ابراهيم الغصن قد احصى النباتات والاشجار التي يتغذى النحل علي ثمارها وازهارها – في المملكة – مما يصعب حصره في مثل هذا المقال. غير اني اخترت ان اشير إلى نوعين من الشجر لهما صلة بالموضوع وهما: السدر والطلح . فأما السدر فقد ورد في اربعة مواضع من سور القرآن الكريم هي::
الآية 16 من سورة سبأ ..
الآية 28 من سورة الواقعة..
الآيتان 14 و 16 من سورة النجم. .
وهذا هو سر علو مكانة هذه الشجرة في الوجدان المسلم، وبالتالي فإن ما تنتجه ، له بركة في نفوس المسلمين. ونضيف إلى ذلك ، القول إن لهذه الشجرة إنتاج من اجود انواع العسل. فلا غرو ان استعار المسلمون اسمها لإطلاقه على المدن والقرى احتفاءً بها وتبركا بعطائها..
ففي السعودية تنتشر اشجار السدر حول محافظة الطائف وخصوصا منطقة (الأصدار) وتُلاحظ بكثرة في وادي شوقب ووادي نشران. واشتق السعوديون من اسمها: (السديرة) وهي قرية من قرى منطقة مكة المكرمة وكذلك(السديرة) الواقعة في شرق محافظة الطائف، ثم (السديرة) التابعة لمحافظة بدر بمنطقة المدينة المنورة. اما (ام سديرة) فهي قرية تتبع لمحافظة المجمعة بمنطقة الرياض..
وفي السودان هناك قرية (السديرة) التابعة لولاية الجزيرة جنوب الخرطوم، وهناك قرية (السديرة) التابعة لولاية النيل الابيض جنوب غرب العاصمة الخرطوم. اما في شمال دارفور فهناك قرية يقال لها: (ام سدر) تارة و (ام سدرة) تارة اخرى..
اما شجرة الطلح فمنها ثمانية عشر صنفاً في المملكة، تنتشر برياً في بطون الأودية والجهات الشرقية والشمالية والجنوبية من محافظة الطائف. والعسل الذي ينتج من رحيق ازهار هذه الشجرة له قيمة غذائية عالية وفوائد طبية عديدة..
وقد اشتق السعوديون من إسم هذه الشجرة اسم قرية (الطلحة) الواقعة شمال مدينة (ظهران الجنوب.) كما ان هناك مجموعة من القرى في عسير تسمى (قرى الطلحة)..
وفي السودان اطلقت اسماء (الطلحة) علي بعض القرى والمناطق الجغرافية اهمها قرية (الطلحة) في شرق مدينة القطينة بولاية النيل الابيض، وعلي قرية (الطلحة) بولاية الجزيرة والتي انشئت فيها اول مدرسة زراعية في البلاد عام 1970م. وهناك قرية اخرى في نفس الولاية يطلق عليها (ام طلحة) : وهذا الاسم المركب من مضاف ومضاف اليه معروف في اسماء المدن والقرى السودانية، مثل ( ام دوم) و (وام ضبان) أي (ام نحل)، فانظر إلى هذا التوافق لعجيب . ثم هناك: ( ام دم) في شمال ولاية كردفان، واخيرا هناك اسم المدينة السودانية الاشهر (ام درمان).
.. وبعد ..
فهذه خواطر جادت بها قريحة ضيف على المملكة جمع فيها اشتاتا من الانطباعات وشحذ ذاكرته واستنطق ما اتيح له من المصادر وادوات التنقيب اللغوي، عبَّر فيها عن دهشته من بعض مظاهر التماثل الثقافي والبيئي بين موطنه (السودان) وبلاد الحرمين الشريفين. وهي دهشة لا تكشف جديداً في العلاقات الازلية بين البلدين الشقيقين ولكنها تؤكد المؤكد وتكشف النقاب عما هو كائن اصلاً. وفوق الدهشة التي اثارها اسم (العسيلة) تمتلئ الجوانح سعادة بما توفر من سياحة في رحاب ذلك التماثل الثقافي والبيئي الخصيب..
فشكراً (لعسيلة جازان) التي جاء اسمها على مسمىَّ، وما احلي ان يتماهى بهاء المظهر في جلال المخبر فيلهم ويوحي وينطق..