
ساجدة السيد *
وقعت كل من رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية اتفاق سلام بوساطة أمريكية في العاصمة واشنطن، بحضور وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو. وجاء في نص الاتفاق: “إن حكومة الكونغو الديمقراطية وحكومة رواندا يؤكدان من جديد الالتزام المتبادل باحترام إعلان المبادئ الذي وقَّعه الطرفان 25 أبريل 2025، على أساس الاحترام المتبادل للسيادة، والسلامة الإقليمية، والوحدة الوطنية، والتسوية السلمية للنزاعات، حرصًا منهما على تعزيز الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، ويُوافق الطرفان بموجب هذا الاتفاق على الالتزام بالأحكام المرفقة”.
ورغم أن البيان المشترك تضمن بنودًا بشأن نزع السلاح وعودة اللاجئين، فقد خلا بشكل لافت من أي إشارة لقطاع التعدين، ما اعتبره مراقبون مؤشرًا على وجود مفاوضات موازية بشأن اتفاقية معادن أوسع بين واشنطن وكينشاسا، في ظل سعي إدارة ترامب لتأمين استثمارات أمريكية في ثروات الكونغو الهائلة من الكوبالت والليثيوم وغيرها، ومنافسة النفوذ الصيني في سلاسل التوريد الإفريقية. وفيما قوبل الاتفاق بترحيب دولي، تبقى تحديات تطبيقه قائمة، في ظل تمدد الجماعات المسلحة مثل “حركة 23 مارس”، وغياب الثقة المتجذرة بين كيجالي وكينشاسا، ما يجعل الاتفاق اختبارًا حاسمًا بين فرص السلام وضغوط الواقع.
تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: هل يصمد اتفاق السلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية؟
تحديات ضاغطة
يواجه الاتفاق سلسلة من التحديات المعقدة التي تعرقل إمكانية تحوله إلى واقع دائم، ويمكن تصنيف هذه التحديات ضمن أربعة مستويات مترابطة، تتمثل في:
() تعقيد المشهد الميداني شرق الكونغو: يُعد شرق الكونغو بؤرة لتعدد الجماعات المسلحة التي يتجاوز عددها المئة، أبرزها “حركة 23 مارس”، و”القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، وهما طرفان رئيسيان في جوهر النزاع، ولم يُشاركا بشكل مباشر في صياغة الاتفاق. ويعكس استمرار سيطرة هذه الجماعات على مناطق استراتيجية ورفض بعضها أي تسوية دون شروط، صعوبة تنفيذ البنود الأمنية للاتفاق، خاصة المتعلقة بوقف الأعمال العدائية ونزع السلاح. كما أن وجود مناطق شاسعة خارج السيطرة الفعلية للدولة، وافتقار الجيش الكونغولي إلى القدرة على ملء الفراغ الأمني، يجعلان أي محاولة لبسط الاستقرار مرهونة بترتيبات ميدانية شاملة لم تتضح معالمها بعد. () غياب الثقة السياسية بين الطرفين: تتسم العلاقات بين كيجالي وكينشاسا تاريخيًا بعدم الاستقرار والاتهامات المتبادلة بدعم التمرد وانتشار الفوضى، وفشلت أكثر من 10 اتفاقات وهدنات سابقة منذ مطلع الألفية في بناء أرضية صلبة للثقة المتبادلة، فهذا الإرث السياسي المثقل بالشكوك يجعل تنفيذ أي التزام أمرًا بالغ الصعوبة، خاصة أن بعض الفصائل الحاكمة في كلا البلدين تعتبر الجماعات المسلحة أوراق ضغط تفاوضية لا يمكن التخلي عنها بسهولة.
() استبعاد بعض الأطراف الفاعلة: اقتصر الاتفاق على حكومتي البلدين، ولم يشمل الأطراف الميدانية الفاعلة مثل الجماعات المتمردة، أو القوى المحلية والزعماء التقليديين، الذين يمتلكون تأثيرًا مباشرًا في مناطق النزاع، كما لم تُطرح حتى الآن آلية واضحة لإدماج هذه الأطراف في مسار التهدئة أو المفاوضات، ما يهدد بجعل الاتفاق إطارًا فوقيًا غير قابل للتطبيق، أو على الأقل هشًا في بنيته التنفيذية. () الضغوط الخارجية: تلعب القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية دورًا مركزيًا في هندسة الاتفاق ودعمه، إلا أن هذا الانخراط لا يخلو من حسابات استراتيجية، خاصة المتعلقة بالوصول إلى المعادن الحيوية، التي تختزنها الكونغو مثل الكوبالت والليثيوم. هذا البُعد الاقتصادي قد يُضعف من استقلالية الاتفاق، ويجعل التزام الأطراف مرهونًا بحسابات النفوذ لا بمتطلبات الاستقرار الفعلي. فضلًا عن ذلك، فإن غياب انخراط صيني أو إقليمي مباشر في الاتفاق قد يُضعف من فرص دعمه الواسع، ويؤدي إلى خلق توازنات متناقضة، تعيق بناء إجماع دولي صلب حوله.
ردود الفعل
أثار توقيع اتفاق السلام بين رواند والكونغو، ردود فعل واسعة من الأطراف الإقليمية والدولية، ويمكن تصنيف المواقف وفقًا للآتي:
() الولايات المتحدة الأمريكية: تُعد الولايات المتحدة الأمريكية الفاعل الرئيسي وراء اتفاق السلام، إذ استضافت مراسم التوقيع وأسهمت في بلورة بنوده الأساسية، لا سيّما ما يتعلق بوقف دعم المتمردين وتحييد الجماعات المسلحة شرق الكونغو. وصرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مراسم التوقيع بأن الاتفاق “يطوي صفحة العنف ويفتح فصلًا جديدًا من الازدهار”، مؤكدًا أن بلاده ستحصل على حقوق موسعة في قطاع التعدين بالكونغو، خاصة في المعادن الاستراتيجية مثل الكوبالت والليثيوم. ويعكس هذا الموقف الأمريكي التقاء الأجندة الأمنية مع الأهداف الاقتصادية، ضمن رؤية تسعى لتقليص النفوذ الصيني في إفريقيا وتعزيز سلاسل الإمداد الأمريكية في مجال الطاقة والتكنولوجيا. () فرنسا: عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن دعمه للاتفاق واصفًا إياه بـ”خطوة تاريخية إلى الأمام”، مع التأكيد في الوقت ذاته ضرورة أن يصمد هذا السلام. ويعكس الموقف الفرنسي مقاربة حذرة تقوم على الترحيب بالتقدم السياسي مع التحذير من هشاشة السياق الميداني، وتأتي هذه النظرة في سياق أوسع يتسم بتراجع النفوذ الفرنسي في وسط إفريقيا، ومحاولة باريس الحفاظ على استقرار منطقة البحيرات العظمى باعتبارها ذات أهمية استراتيجية لمصالحها الأمنية والاقتصادية، لا سيّما في ظل تزايد الحضور الروسي والصيني في محيطها التقليدي.
() الأمم المتحدة: أصدر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، بيانًا عبّر فيه عن ترحيبه بالاتفاق، واصفًا إياه بـ”خطوة بارزة نحو نزع فتيل التصعيد وبناء السلام”. ودعا جميع الأطراف إلى الوفاء الكامل بالتزاماتها وتنفيذ البنود المتفق عليها على الأرض، ويأتي موقف الأمم المتحدة في إطار دعمها المستمر لجهود الوساطة والتهدئة في شرق الكونغو، لا سيّما من خلال بعثة “مونوسكو”، التي ما تزال تواجه انتقادات محلية لعجزها عن وقف العنف، لكنها تمثل الذراع التنفيذية الدولية لأي مسار سلمي، كما يعكس البيان الأممي رغبة في أن يتحول الاتفاق إلى فرصة لتعزيز الاستقرار الدائم بدلًا من أن يكون مجرّد تهدئة مؤقتة. () الاتحاد الإفريقي: عبّر الاتحاد الإفريقي، رئيس مفوضيته محمود علي يوسف، عن دعمه القوي للاتفاق، واصفًا إياه بأنه “خطوة إيجابية في اتجاه حلّ الصراع المزمن بين رواندا والكونغو”. وشدّد على ضرورة التنفيذ الفوري لبنود الاتفاق، وعلى أهمية انخراط كل الفاعلين في مسار سياسي شامل. كما أكد الاتحاد استعداده لمواكبة الاتفاق وتوفير الدعم عبر آلياته القارية، لا سيّما مبادرة “إسكات البنادق”، التي تهدف إلى إنهاء النزاعات المسلحة في إفريقيا بحلول 2030. ويمثل هذا الموقف تطورًا في تعاطي الاتحاد مع الأزمة، إذ انتقل من دور المتفرج إلى فاعل محتمل في تثبيت مسار السلام.
سيناريوهان محتملان
() نجاح تدريجي واستقرار نسبي: في هذا السيناريو، تلتزم الحكومتان بتنفيذ الاتفاق بشكل متدرج، مدعومتين بإرادة سياسية حقيقية، وضغوط دولية فعّالة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وتنجح مباحثات قطر في التوصل إلى صيغ تسوية مع الأطراف المتمردة، لا سيّما “حركة 23 مارس” و”القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، ويتم تفعيل آلية المراقبة الأمنية المشتركة. يؤدي ذلك إلى تهدئة طويلة نسبية، تسمح بإطلاق استثمارات اقتصادية جديدة، خاصة في قطاع التعدين، ما يُعزز من فرص الاستقرار والتنمية بشرق الكونغو. ورغم هشاشته، فإن هذا السيناريو يظل ممكنًا إذا توفرت الإرادة والموارد والضمانات الكافية. () الجمود وعدم التنفيذ: يقوم هذا السيناريو على واقع مألوف في التجارب الإفريقية، إذ تظل الاتفاقات حبيسة التصريحات والوثائق، دون ترجمتها إلى واقع عملي. ورغم استمرار التصريحات الودية، إلا أن غياب الثقة وتباين أولويات الحكومتين ورفض المتمردين الانخراط في التسوية، تؤدي إلى فشل تفعيل البنود الأمنية. وتبقى الأوضاع على الأرض متوترة، مع احتمالات تصعيد متقطع، واستمرار الدعم غير المباشر للمسلحين، في تكرار لنمط الاتفاقات السابقة. وهو سيناريو واقعي حال غياب آليات تحقق دولية صارمة، أو عودة التنافس الإقليمي والدولي في المنطقة.
لكن، رغم أن اتفاق السلام يحمل عناصر واعدة، إلا أن مستقبله يتوقف على ديناميات متعددة داخلية وخارجية. والترجيح الواقعي يشير إلى سيناريو وسط بين التهدئة الجزئية والجمود، ما لم يتم تطوير الاتفاق ليتضمن آليات رقابة دولية واضحة، وضمانات سياسية واقتصادية تُعزّز من فرص استدامته.
ختامًا :
يمكن القول إنه ليست المرة الأولى التي تُوقّع فيها رواندا والكونغو الديمقراطية اتفاقًا للسلام، لكنها من المرات القليلة التي يترافق فيها التوقيع مع انخراط دولي بهذا المستوى. ورغم أن الاتفاق الجديد يُمثّل لحظة دبلوماسية مهمة، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في قدرته على البقاء حيًّا وسط بيئة مضطربة. فصمود هذا الاتفاق لا يرتبط بالنوايا المعلنة وحدها، بل يتطلب تحولًا حقيقيًا في سلوك الدولتين، وانخراطًا جادًا مع الفاعلين المسلحين، وتفعيلًا عمليًا لآليات الرقابة والمتابعة. وبين مسار واعد لم يكتمل بعد وتجارب لم تلق نجاحًا لا تزال حاضرة في الذاكرة، يبقى مستقبل السلام في المنطقة مرهونًا بمدى الاستعداد لوضع حدًا لتلك الحرب التي استنزفت الموارد والأرواح .
*القاهرة الإخبارية