
في عالم تحكمه المصالح وتُرسم خرائطه خلف الأبواب المغلقة، لا يمكن النظر إلى ما يحدث في السودان والمنطقة العربية على أنه مجرد أحداث عابرة أو صدف تاريخية. فحين تتكرر الأزمات، وتتقاطع خيوط التدخلات الخارجية، وتُستنزف الثروات في صمت، يصبح من الضروري أن نطرح السؤال الجوهري: هل ما تتعرض له هذه المنطقة من استهداف هو وليد اللحظة، أم أنه جزء من مشروع أوسع، خُطط له منذ عقود وربما قرون؟
إن القارة الأفريقية كانت و ماتزال مستهدفة داخل المخطط الصهيوني الذي حدد بعض مناطقها كمواقع إحتياطية له في حالة عدم قيام الدولة اليهودية فى موقعها الأصلي فى الأراضى الفلسطينية العربية, وأصبحت منطقة شرق أفريقيا التى تضم كل من أثيوبيا, جنوب السودان وشمال أوغندا أحد أهم المواقع البديلة لقيام الدولة اليهودية، رغم أن الامتداد الصهيوني شمل معظم أجزاء القارة السمراء، إذ وجد العديد من الباحثيين أن التطلع الصهيوني يضع أيضا مناطق الإيبو فى جنوب نيجيريا كموقع آخر بديل له, كما تشكل جنوب أفريقيا موقعاً ثالثاً مشكلا مثلثاً يضع فى إعتباراته إحتواء المد الإسلامي في أفريقيا تمهيداً للقضاء عليه, كما رصدت العديد من الأبحاث و الدراسات التي تتبعت علاقة إسرائيل بأفريقيا عبر اوجه مختلفة آخذة فى إعتباراتها حروب الدولة العبرية مع العرب, أن الأهداف الحقيقية التي تجعل أفريقيا ذات أهمية استراتيجية للكيان الصهيوني هو أن شرق القارة الأفريقية بمافيه من ثروات مائية وطبيعية أخرى يعتبر رافداً إقتصادياً وجزءاً لا يتجزأ من إمتداد الأرض اليهودية مهماً للحركة الصهيونية العالمية.
و من هنا تاتي الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل فى القارة الإفريقية فهناك هنالك أهداف قديمة للإسرائيليين في أفريقيا تتمحور معظمها في إيجاد بيئة محيطة ببيئة الكيان الصهيوني تضمن له الوجود وتدعمه, وأن تكون له معيناً لا ينضب لما للقارة الأفريقية من مزايا استراتيجية وثروات بشرية وطبيعية, ولعل أهم الأهداف التي سعت إسرائيل لتحقيقها في القارة السمراء هو ضمان بقاء وجود إسرائيل وضمان امنها، حيث وفرت لها البيئة الأفريقية مجالاً لكسر الطوق المفروض عليها سياسياً واقتصادياً من الدول العربية, والخروج منه إلى أفريقيا فى إطار سعيها لكسب الشرعية الدولية, حيث تشكل دول القارة الأفريقية وزن لا يستهان به فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، إضافة إلى أهدافها في تطويق الأمن المائي العربي وتهديد أمن مياه النيل والسيطرة على الملاحة في البحر الأحمر عبر السيطرة على مداخله, كما تدخل قضية التأثير على اقتصاديات الدول العربية ضمن أهداف الدولة العبرية لعرقلة نمو الدول العربية، كما أن إسرائيل تسعى بكل قوتها لخلق إشكاليات بين العرب والأفارقة وتهيأت الأجواء فى أفريقيا لتأييد الكيان الصهيونى المتمثل فى دولة إسرائيل.
وبلاشك نجد أن القارة الأفريقية تشكل بعدا إستراتيجيا مهما ومجالا حيويا يمكن الدولة العبرية من الحصول على مكاسب اقتصادية كبيرة, عبر التبادل التجاري مع الدول الإفريقية, وإيجاد سوق كبيرة فيها لصادرات الصناعة الإسرائيلية وإستيراد المواد الخام, وتصدير طاقات العمل الفائضة لديها, ويرى الكثير من الباحثيين فى الشأن الإسرائيلى أن هذه الأهداف كانت ضمن أولويات السياسة الخارجية الإسرائيلية, لقد أصبح الوجود الإسرائيلى واقعاً في الشرق الأوسط كما أنه أصبح الآن يتمدد بارتياح فى القارة الإفريقية بغرض دوافعه التى تستهدف تطويق الوطن العربي, بغية التحكم في أمن الدول العربية والإضرار بعلاقتها مع الدول الأفريقية, وترى العديد من الدراسات أن نسبة كبيرة من سكان الكيان الصهيوني الحاليين قدمت من دول أفريقيا فى الحقبة التاريخية المتدة من عام 1948 م حتى عام 1970 م، وأن نسبة الوجود الأفريقي في الكيان الصهيوني حتى العام 1970 م تتراوح من 15% إلى 17% اى حوالى 85% من سكان إسرائيل, كما نجد أن الاستعمار الغربي للقارة الأفريقية وفر كل المعينات لإسرائيل لكى تتمكن من الدخول إلى داخل مستعمراته الأفريقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وإتاحة الفرصة لها للترويج لمشروعها الذى يستهدف إقامة دولة صهيونية.
ويرى الباحثون أن هناك خلفيتين حكمتا أهداف السياسية الخارجية الإسرائيلية في أفريقيا, الأولى تمثلت في الخلفية المرتبطة بالأمن القومي لدولة إسرائيل, أما الثانية فتمثلت فى الهيمنة, وفي كتابه (إسرائيل إلى أين) قال ناحوم غولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بين عامي 1956 م و 1968 م : “لقد أكد كل المفكرين الآخرين والآباء المؤسسين للصهيونية على الصفة الإنسانية والكونية لهذه الدولة بالقدر نفسه على صفتها الوطنية والخاصة، ولم يقم طموح هؤلاء المحركين الإيديولوجيين للحركة الصهيونية على إيجاد أرض غالبيتها من اليهود فقط حيث يصبح اليهود أسياد مصيرهم، بل استخدام هذه البقعة لتطبيق الأفكار الأساسية في التاريخ اليهودي”, ويضيف غولدمان : ” أن الخطر الكبير الذي تقع فيه إسرائيل هو نسيان صفتها الفريدة، إذ أنشئت في محاولة لخلق دولة وحيدة من نوعها، ومن المؤكد أن دولة إسرائيل لا يمكن أن تبقى إلا إذا شكلت ظاهرة لا مثيل لها في العالم “, ويؤكد ذلك الدكتور علي مزروعي حيث قال : “إن مؤسس الصهيونية واصل التفكير في أفريقيا على أنها امتداد لإسرائيل أكثر من كونها وطناً لليهود، ولما كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود الذين أرادوا الاستقرار معاً في مناطق يستطيعون فلاحتها بأنفسهم ويسمونها وطناً مشتركاً فقد اعتبرت فلسطين مكاناً غير مناسب لكل اليهود الذين أرادوا الاستقرار معا بهذه الطريقة، ولذلك فإن هرتزل رأي أن شرق أفريقيا يعتبر مكاناً مناسباً للموجة الثانية من الاستعمار اليهودي لا الموجة الأولى, وهكذا نجد أن دولة إسرائيل أعطت أهمية لأفريقيا على فكرة التواجد اليهودي المكثف فى القارة الإفريقية.
لذلك نجد أن إسرائيل على الدوام عملت فى إطار صراعها مع العرب على ألا يكون السودان مصدر قوة لمصر, التي لعبت دوراً مهماً في الصراع العربى مع إسرائيل، وهى تسعى بإستمرار على تهديد الأمن الوطنى السودانى منذ عام 1952م، فقبل أن ينال السودان إستقلاله قامت الدولة العبرية بدعم ومساعدة التمرد بالجنوب لإضعاف قوى الشمال ذات الإرتباط العربى، فقد صنَّفت إسرائيل السودان على أنه دولة معادية لها, نتيجة لمشاركة كل وحدات الجيش السودانى القتالية بالفعل في الصراع .
ومع مجيء نظام الإنقاذ بدأت إسرائيل تعيش حالة من القلق بعد إدراك أن الحركة الإسلامية السودانية هى التى تقف من وراء ذلك الإنقلاب, وقد كشف بنيامين نتنياهو (حزب الليكود) عن أن السياسة الإسرائيلية تجاه السودان تقوم على أساس العمل لإسقاط الحكومة وتغيير النظام، وهو ما عرضه نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي عام 2002 م, حيث طالب الحكومة الأمريكية بالعمل على إسقاط ستة أنظمة في الشرق الأوسط من بينها السودان, ومازالت إسرائيل تمارس سياستها المرسومة ضد السودان منذ عقود والتي ترتكز على نظرية التخوم, أو سياسة شد الأطراف وذلك من خلال استمرار دعمها لحركات التمرد في السودان كما يحدث حالياً، فلم تتغير تلك السياسة على الرغم من حدوث الكثير من المتغيرات والتبدلات الإقليمية, إذ ما تزال إسرائيل متمسكة بإستراتيجية شد الأطراف بهدف إضعاف المركز السودانى حتى الإنهيار التام, فإسرائيل جزء من القوة الدافعة على تصاعد وتيرة الأزمة في السودان حالياً من خلال وكيلها الرئيسي ابوظبي، كما انها نجحت فى إستغلال أزمة دارفور سابقاً من أجل تحقيق مصالحها التى تتبناها فى سياساتها الخارجية لتحقيق إختراقها للقارة الإفريقية، وكل ذلك لدق إسفين فى العلاقات بين العرب والأفارقة، وقامة باستخدام المنظمات التابعة للجمعية اليهودية الأمريكية مثل تحالف أنقذو دارفور (Save Darfur) من أجل التحرك الدولى لوقف الإبادة الجماعية فى دارفور حسب تعبيرهم, ويتكون هذا التحالف من 180 منظمة حقوقية ودينية يهودية حيث تم إنشاؤه فى عام 2004 م, كما أن هنالك مجموعة أخرى من المنظمات التى لعبت دورا مهما فى قضية دارفور سابقاً و تعملمثل منظمة إتحاد العالم من أجل دارفور (Globle for Darfur) التى تتكون من مجموعة من المنظمات الحكومية التى تعمل فى دارفور, وأبرز هذه المنظمات المكونة لهذا الإئتلاف هى اللجنة اليهودية الأمريكية (The American Jweish committe) أبرز جماعات اللوبى فى الولايات المتحدة, منظمة الخدمات الأمريكية اليهودية العالمية, تحالف الإتحاد الإنجيلى الدولى, أمريكيون ضد الإبادة الجماعية فى دارفو, إتحاد طلبة اليهود بأوربا, منظمة العفو الدولية, منظمة هيومان رايتس ووتش (Human Rights Watch), مجموعة الأزمات الدولية (CRISES GROUP) والإتحاد الدولى لحقوق الإنسان تحالف أنقذو دارفور,كل هذه المنظمات ولجت إلى إقليم دارفور عبر مسألة اللاجئين، لإضفاء بعد إنساني على سياستها تجاه الأزمة، وبهدف تقديم العرب على أنهم يسيئون معاملة الأقليات الأفريقية, وراحت تدعي كذباً بأنها تقف مع الدارفوريين لتخليصهم من العبودية في السودان، وذلك لكي تكرر تدخلها في العالم العربي من جديد بعد تدخلها فى الجنوب السودانى وهنا يجدر بالذكر أن جميع الطلبات لعقد هدنة انسانية الغرض منه تكرار نفس السناريو مرة اخري.
بالنظر إلى كل هذه المعطيات وتتبع الأحداث، يتضح أن ما يجري في السودان والمنطقة العربية ليس إلا جزءًا من مخطط سياسي شامل لإعادة هيكلة منطقة القرن الأفريقي والشرق الأوسط. وقد تم الزج بلاعبين جدد في عملية التنفيذ، التي بدأت ملامحها تتضح منذ الغزو الأمريكي للعراق، وصولًا إلى ما يحدث في السودان اليوم. ويبدو أن هذا المخطط يخدم بالدرجة الأولى مصالح الكيان الصهيوني، الذي غيّر أدواته ووسائله لتنفيذ ما تبقى من خطته في المنطقة، عبر دولة أبوظبي تحديدًا، التي تولت مهام الدعم اللوجستي وتمويل الميليشيات التي أُنشئت لخدمة تلك الأجندات كما يحدث في اليمن و السودان حالياً.
وحسب آراء العديد من الباحثين، فإن عدم تحرك الدول العربية ودول الشرق الأفريقي بشكل موحد لصد هذا المشروع، سيؤدي بلا شك إلى مزيد من التصعيد والتوتر، وربما إلى انهيار شامل للمكون العربي-الأفريقي في المنطقة.
محمد الحاج
٣١ ديسمبر ٢٠٢٥




