
في اللحظة التي تبدأ فيها البلاد تلملم جراحها، وتتطلع نحو الأفق بعين الأمل، بعد حربٍ لم تبقِ من مقدّراتها شيئاً إلا وأصابته، تتقدم طوابير العائدين من منافي الغربة وملاجئ النزوح، نحو وطنٍ أنهكته النكبات، لكنه ما زال قادراً على الحياة. هؤلاء العائدون لم يأتوا بالحنين وحده، بل جاءوا محمّلين بالإصرار على المساهمة في إعادة بناء ما تهدّم، مدفوعين بإيمان عميق بأنّ الوطن هو مسؤولية مشتركة، وبأن الدور القادم ليس حكراً على أحد، بل تكليف عام لكل أبناء وبنات هذا الوطن.
المرحلة القادمة تفرض علينا جميعًا أن نتحول من حالة الرصد السلبي لأخطاء الآخرين، إلى حالة الفعل والعمل، فالبلاد لا تُبنى بالتشكيك ولا تنهض بالانتقاد الهدّام، بل تُبنى بالأيدي المتكاتفة والعقول المتفهمة والقلوب المتصالحة. قد نجهل ظروف من يعملون في الظل، وقد لا نُدرك ما يبذلونه من جهود وما يتحملونه من مشاق، لذلك من الحكمة أن نكفّ عن تصيُّد الأخطاء، وأن ننشغل بما نستطيع إنجازه، حتى وإن كان صغيرًا في أعيننا، فالله تعالى يقول: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره﴾ [الزلزلة: 7].
إنّ من أعظم صور الوطنية أن تدرك موضعك، وتنهض بما عليك، لا أن تنتظر التكليف أو التصفيق. وهذا ما أكده النبي ﷺ حين قال: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها”. حديثٌ عميقٌ في معناه، يرشدنا إلى أن لا مجال للتقاعس، حتى في أحلك اللحظات.
السودان، ذلك الوطن المتعدد الوجوه والألوان، ما زال في حاجة إلى من يمد له يد العون لا من يثقل كاهله بمزيدٍ من الشكوى واللوم. ولنبدأ بأنفسنا: هذا هو دوري، مهما كان بسيطاً، ما دام يصب في المصلحة العامة، ولن أسمح لليأس أن يغتال أملي، ولا للقنوط أن يخبو في دربي.
وما أكثر الأدوار التي يمكن أن نضطلع بها دون أن ننتظر توجيهًا أو إذنًا. فكل منّا قادر على أن يسهم، ولو بجهد بسيط، في نهضة هذا الوطن. بإمكان أحدنا أن ينشئ مجموعة لدعم الأسر المتضررة، أو أن يجمع تبرعات لإعادة تأهيل مدرسة متهدمة. ويمكن للآخر أن يخصّص وقتًا لتعليم الأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة بسبب النزوح، أو لتقديم ورش ثقافية تبثّ روح الأمل وتعيد التوازن النفسي في الأحياء المتأثرة. البعض يستطيع أن يقدم محاضرات أو حلقات نقاش تبني الوعي العام، وتُعلي من شأن الحوار والانفتاح، أو أن يساهم في تنظيم ليالٍ ثقافية ، شعرية وفنية تعيد للناس بهجة اللقاء.
وهناك من يملك أن يدعم لا بالمال أو الجهد فقط ، بل حتي بالكلمة الطيبة، وبالتشجيع، وبزرع الثقة فيمن يعملون، لا بكسر هممهم أو الطعن في نواياهم. بإمكاننا أن ننشئ مبادرات صغيرة، ندعم بها المرأة لتبدأ مشروعها الخاص، أو نساند الشباب في إطلاق أفكارهم التنموية، أو نقف بجانب كبار السن في رعايتهم صحياً ونفسياً. بل إن مجرد الحفاظ على البيئة المحيطة، والمشاركة في نظافة الأحياء، وترميم ما تهدم، وإعادة الألوان إلى الجدران الرمادية، يُعدُّ مشاركة حقيقية في إعمار الوجدان قبل العمران.
قال الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ
هذا الوطن، الذي أجهدته الحروب، ينتظر منّا أن نُشعل فيه شعلة الحياة من جديد، وأن نكون لبناته، لا معاول هدمه. فإن لم نستطع أن نبني، فدعونا لا نهدم؛ وإن لم نستطع أن نشارك، فلنمنح غيرنا مساحة للمشاركة بثقة.
ولنجعل شعارنا أن نُحسن الظنّ، ونُعلي من قيمة العمل، ونؤمن أنّ البناء الحقيقي يبدأ حين يقول كل واحد منا: “هذا هو دوري”.