الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

نيالا : العقدة الاستراتيجية في الحرب الكبرى وعاصمة بديلة ينشدها التمرد!؟

السفير د. معاوية التوم

مقدمة

لم تعد نيالا مجرد مدينة سودانية في عمق دارفور، بل غدت اليوم العقدة الاستراتيجية الأخطر في مشهد الحرب الكبرى. فمن مطارها تمر الطائرات المحملة بالسلاح والمرتزقة بكثافة، وفي معسكراتها يتم التدريب والتحشيد، وعلى أرضها تجري حسابات دولية وإقليمية متشابكة. وباراضيها خبراء أجانب في كل ضروب السلاح والتقانة العسكرية والاتصالات وكل متطلبات القيادة والسيطرة والميدان بامرته وتقديراته وقرارته ..إنها لم تعد عاصمة جنوب دارفور فحسب، بل تحولت إلى مسرح مفتوح للصراع على السودان كله، بل وربما على مستقبل القرن الإفريقي بأسره.
وما يزيد خطورة المشهد أن مشاريع تحويلها إلى عاصمة بديلة للتمرد، واستغلالها كنقطة ارتكاز للتدخلات الخارجية، يظل حلما يجعلها تقف اليوم على فوهة بركان؛ فإذا انفجرت، فلن يبقى أثر للحرب في حدودها، بل سيمتد ليمزق السودان ويعيد رسم خرائطه السياسية والجغرافية في سياقات باتت معلنة.

مطار نيالا: البوابة الأخطر

المطار لم يعد مرفقًا مدنيًا، بل صار شريانًا عسكريًا وإمداديًا خطيرًا. الطائرات القادمة من الإمارات وربما مواني أخرى لم تحمل فقط الإمداد العسكري، بل تنوعت مهامها بين نقل مرتزقة وتجهيزات حساسة ليس اخرها المسيرات والمدفعية طيلة المدى.
في المقابل، تعرض المطار لقصف مكثف وظل مستمراً من قبل الجيش، في محاولة لقطع شريان حياة التمرد، ووجدت على أرضه الجثث والأدلة التي تشهد على تدوليه لصالح التمرد . لكن بقاءه في الخدمة يعني أن المدينة ستظل مفتوحة على كل الاحتمالات: إمداد خارجي، تصعيد داخلي، وربما تقسيم وشيك وفق خططهم المعدة سلفا.

معسكر التدريب الكبير

ما حدث في نيالا لم يكن عابرًا؛ إذ تحولت إلى أكبر معسكر مفتوح للتدريب والتحشيد.

•جرى تأهيل القبائل المحلية للقتال في صفوف التمرد.
•استُقدم مرتزقة من تشاد وأفريقيا الوسطىوعدد من عرب الشتات ومن كولمبيا ودول اخري بالاقليم وخارجه.
•ورافق ذلك حراك دبلوماسي لافت، من زيارات البعثات الدبلوماسية والأممية على ايام فولكر بيرتس، إلى اجتماعات علنية وسرية مع قادة التمرد.

كل ذلك لم يكن صدفة، بل كان ترتيبًا ممنهجًا لحرب طويلة، ارتكزت الي الإطاري ومخططها يرمي الي ١٥ أبريل ٢٠٢٣ حث الطلقة الاولى ثم امتدت شرارتها لتصل نيالا.

القيادة والسيطرة: غرفة عمليات مفتوحة

أخطر ما يميز نيالا اليوم أنها تحولت إلى غرفة عمليات متقدمة:
•الجيش أقام قواعد ميدانية لتأمين الإمداد ومحاصرة التمرد.
•التمرد جعلها مركزًا للتخزين والتدريب والانطلاق نحو عمليات خاطفة.
السيطرة على نيالا تعني ببساطة امتلاك العين والأذن والعصا في جنوب دارفور: مراقبة، توجيه، وضرب. وهذا ما يجعلها جائزة استراتيجية يتقاتل عليها العدو بلا هوادة، ويعي انها صرة في العمق الدارفوري يوم أن كان جزءاً من منظومة الدولة العسكرية.
عاصمة بديلة على فوهة بركان
ربما أخطر ما جرى هو محاولة التمرد تحويل نيالا إلى عاصمة سياسية بديلة لحكومة تأسيس مناوئة للدولة، وتسارع الهى في حصار الفاشر ، وأداء اليمين لحميدتي والحلو حتى وان جرى ذلك من خارج البلاد ، تبقى الغاية نيالا.
كان الهدف واضحًا: تقسيم السودان سياسيًا ورمزيًا، وإظهار أن الخرطوم لم تعد المركز الأوحد للسلطة.
لكن هذه المحاولة، وإن فشلت دوليًا بعد رفض مجلس الأمن، تظل جرس إنذار خطير: ما دام المشروع قد طُرح، والخطط الماكرة تتمدد وتتكشف،فهو قابل للعودة في أي لحظة، خصوصًا مع وجود دعم إقليمي مباشر وغير معلن من خلال الأموال التي يعكسها التباطؤ والتواطؤ في رفع الحظر على عضوية السودان بالاتحاد الأفريقي .
أبرز التحديات أمام الجيش في نيالا
رغم خبرة الجيش السوداني وتاريخه الطويل في القتال الميداني، يواجه في نيالا تحديات كبيرة تشمل:

•التمرد المتأصل محليًا بين القبائل، ما يصعب الفصل بين المدنيين والمقاتلين في السياق القبلي المحلي.
•المرتزقة والدعم الخارجي المستمر للتمرد عبر الحدود مع تشاد وأفريقيا الوسطى.
•إمدادات لوجستية معقدة في بيئة قاسية، مع تهديد مستمر للطائرات والمطارات واستخدام التمرد ورعاته لوسائط متقدمة ومنصات أقمار اصطناعية.

٠ الأزمة الإنسانية الضاغطة على المدينة والمعسكرات المحيطة، ما يزيد الضغط على القوات ويحتم حماية المدنين وانسياب الغذاء والدواء و الاحتياجات الرئيسية وتخفيف الخسائر بين المدنيين.
التدخل الإقليمي… نيالا بوابة مفتوحة
ليست الحرب في نيالا شأنًا سودانيًا صرفًا؛ فالمدينة تقع على تماس مع تشاد وأفريقيا الوسطى، وتستقبل عبر حدودها الإمداد البشري والمادي بلا انقطاع بكل مستلزماته.
إضافة إلى ذلك، كان التدخل للراعي من خارج الحدود عبر الطائرات علامة فارقة، أثبت أن نيالا ليست مدينة محاصرة فقط، بل محطة دولية لصراع الارادات والنفوذ في السودان وحلقة من تحد كبير تشفه بمئات هذهالحرب المفروضة على البلاد.
المأساة الإنسانية: نزيف بلا توقف
وسط هذه الحسابات العسكرية والسياسية، يعيش المدنيون حول نيالا جحيمًا يوميًا.
•معسكري السريف وعُطاش يضمان عشرات الآلاف من النازحين الذين فروا من أتون المعارك إلى أوضاع مأساوية: جوع، عطش، أمراض بلا دواء.
•الأطفال يموتون بصمت، والنساء يفترشن الأرض تحت رحمة السماء.
•المنظمات الإنسانية عاجزة عن مجاراة حجم الكارثة، فيما يزداد الضغط على المجتمعات المحلية التي لم تعد قادرة على الاستيعاب.
إنها ليست أزمة عابرة، بل مأساة تهدد بانهيار النسيج الاجتماعي، وقد تدفع المجتمعات المحلية نفسها إلى الاصطفاف مع من يوفر لها الحد الأدنى من الأمان والخبز، حتى لو كان العدو الذي أشعل هذه الحرب

ختام وتحذير

تظل القوات المسلحة الي جانبها المشتركة وكل السند الشعبي الذي يصطف خلف الجيش ، يؤدون مهمة واحدة هي دحر التمرد وهزيمته في كل محاور القتال ومناطق دارفور وكردفان التي تقطع تحت سيطرته .. لكن إذا بقيت نيالا خارج سيطرة الجيش لا قدر الله، فإن المدينة ستدخل مرحلة انفلات استراتيجي خطير. ستتحول إلى عاصمة أمر واقع للتمرد، ومرتكز لتدفق المرتزقة والسلاح عبر الحدود مع تشاد وأفريقيا الوسطى، ما يمنح التمرد قدرة على الصمود والتوسع. وفي هذه الحالة، لن تبقى دارفور مجرد جبهة حرب، بل ستغدو كيانًا موازٍ للدولة، بكل ما يحمله ذلك من تهديد لوحدة السودان.
ورغم أن نيالا تبدو اليوم عقدة صعبة في الحرب، إلا أن ميزان القوة الحقيقي يميل لصالح الجيش السوداني في نهاية المطاف. فهذا الجيش الذي يمتد تاريخه لأكثر من عشرة عقود، خاض حروبًا طويلة ومعقدة، ونجح خلال العام الماضي في استعادة معظم المناطق التي سقطت بيد التمرد، رغم قسوة التحديات وضخامة الكلفة و الثمن الذي دفعته البلاد من دماء أبنائها وبنيتها التحتية ومقدراتها.
أما التمرد، فمعتمد على الإمداد الخارجي والمرتزقة والدعم غير المشروع، والأحلام الرغبوية دون جذور مؤسسية أو قدرات نظامية تمكّنه من الصمود الطويل. ولهذا فإن بقاء نيالا خارج سيطرة الجيش لا يعني أن ميزان الحرب قد انقلب، بل يظل معركة مؤجلة في حرب أوسع يبدو أن الكفة فيها ستعود تدريجيًا لصالح الدولة وجيشها القومي.

الخلاصة الأشد وضوحًا:

من يظن أن الصراع على نيالا شأن داخلي محدود، لم يفهم بعد خطورة اللعبة. فالمدينة اليوم هي مفتاح الحرب الكبرى، وإذا سقطت بالكامل في يد التمرد أو بقيت رهينة التدخلات الخارجية، فإن السودان بأكمله مهدد بالانزلاق نحو تشظٍ ، ومخططات العدو تمضي الي مناطق في عمق الجوار الاقليمي.
ويظل الجيش السوداني ، برغم ما واجهه من مؤامرات وضغوط وخسائر، أثبت أنه العمود الفقري للدولة السودانية، وأن التمرد مهما تضخم لن يكون سوى ظل لقوى خارجية وعملاء لا تملك مشروعًا وطنيًا. ومن يراهن على غير ذلك، إنما يغامر بمستقبل البلاد كلها ويضعها بيد التآمر والأجنبي.


مطلع سبتمبر ٢٠٢٥م

تعليق واحد

اترك رد

error: Content is protected !!