الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

موانيء السودان بالبحر الاحمر، دوائر الصراع و التنافس الاقليمي و الدولي (1)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)

______________

يمثل البحر الأحمر واحداً من أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في العالم، ليس فقط بصفته قناة عبور رئيسية للتجارة بين الشرق والغرب، بل أيضاً باعتباره ساحة صراع مفتوحة على التنافس الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري بين القوى الإقليمية والدولية. فمن خلاله تمر ما نسبته 10% من التجارة العالمية وأكثر من 4.8 مليون برميل نفط يوميًا، وهو ما يجعله بمثابة شريان حيوي للطاقة والتجارة، وأي اضطراب فيه، سواء عند مضيق باب المندب جنوبًا أو قناة السويس شمالًا، يؤدي إلى هزات فورية في أسواق النفط والتأمين والنقل البحري العالمي.

وليس البحر الأحمر مجرد خط إمداد اقتصادي، بل هو أيضًا ساحة تاريخية للنفوذ والسيطرة؛ فقد تنافست حوله القوى الكبرى منذ العصور القديمة، بدءًا من الفراعنة والعرب، مرورًا بالعثمانيين والاستعمار الأوروبي، وصولاً إلى الولايات المتحدة والصين وروسيا في عصرنا الراهن. واليوم، يتجدد هذا التنافس بصورة أعنف مع دخول قوى إقليمية مثل الإمارات وتركيا وإيران و إسرائيل في دوائر النفوذ، حيث يرى كل طرف أن التحكم في موانئ البحر الأحمر هو طريق لتعزيز نفوذه السياسي والأمني والاقتصادي.

وفي قلب هذه المعادلة يقف السودان، بفضل موقعه الجغرافي الاستثنائي وسواحله الممتدة لأكثر من 720 كيلومترًا على الضفة الغربية للبحر الأحمر، محتضنًا مجموعة من الموانئ التي تمثل شرايين حيوية للاقتصاد الوطني وبوابات طبيعية لوسط وشرق إفريقيا. غير أن هذه الموانئ ليست مجرد منافذ تجارية، بل هي مفاتيح سيادة وأوراق ضغط تُستخدم في حسابات الصراع الإقليمي والدولي. وهذا ما يفسر أن الأطماع فيها لم تكن بعيدة عن جذور الأزمة السودانية الحالية، إذ يرى كثير من المراقبين أن التنافس على السيطرة على الموانئ السودانية، وفي مقدمتها بورتسودان وسواكن، كان ولا يزال من بين الدوافع الخفية للحرب، ومحركًا رئيسيًا للتدخلات الخارجية في المشهد السوداني.

وبذلك، فإن تناول موانئ السودان بالتحليل لا يمكن أن ينفصل عن قراءة السياق الأوسع، (البحر الأحمر كفضاء عالمي للتنافس، السودان كمحور استراتيجي في قلبه، والحرب الراهنة كواحدة من تجليات هذا الصراع على النفوذ والسيادة).

أهمية البحر الأحمر

يُعَدّ البحر الأحمر واحدًا من أكثر الممرات المائية حساسية واستراتيجية في العالم، إذ يشكّل الرابط البحري الأهم بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط عبر مضيق باب المندب جنوبًا وقناة السويس شمالًا. ومن خلاله تمر سنويًا ما يقارب 10–12% من حجم التجارة الدولية، بما في ذلك أكثر من 4.8 مليون برميل نفط يوميًا، إلى جانب صادرات الغاز الطبيعي، والسلع الغذائية، والمواد الخام، والبضائع المصنعة. وهذا يجعل من البحر الأحمر شريانًا عالميًا للطاقة والغذاء، وأي اضطراب في أمنه أو في حركة الملاحة عبره سرعان ما ينعكس على الاقتصاد الدولي برمّته، من أسعار النفط والتأمين، إلى تكاليف النقل والتوريد.

إلى جانب دوره الاقتصادي، يتمتع البحر الأحمر بأهمية استراتيجية – عسكرية بالغة؛ فموقعه بين قارتين (آسيا وإفريقيا) وبقربه من أوروبا يجعله ساحة تنافس للقوى الكبرى. فمنذ الحرب الباردة وحتى اليوم، تسعى قوى مثل الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، إلى تعزيز حضورها البحري والعسكري في هذه المنطقة الحساسة، لما توفره من قدرة على التحكم في خطوط التجارة والإمداد العالمية. ولهذا السبب تحولت بعض الدول المطلة عليه، مثل جيبوتي وإريتريا، إلى مراكز عسكرية تستضيف قواعد أجنبية متعددة، أمريكية وصينية وفرنسية ويابانية وروسية.

أما على المستوى الإقليمي، فالتحكم في البحر الأحمر يعني امتلاك أداة ضغط وتأثير سياسي واقتصادي في آن واحد. إذ تتنافس قوى إقليمية مثل الإمارات وتركيا وإيران على بسط نفوذها في موانئه وسواحله، سواء عبر الاستثمار في البنية التحتية، أو عبر الوجود العسكري المباشر، أو عبر توظيف الصراعات الداخلية في بعض دول الإقليم لمدّ النفوذ والسيطرة.

ومن هذا المنظور، لا يُنظر إلى البحر الأحمر كممر مائي فحسب، بل كـساحة صراع جيوسياسي متكاملة، تتقاطع فيها مشاريع النفوذ الكبرى، وتتعاظم فيها المخاطر الأمنية من القرصنة والإرهاب وتهريب السلاح والبشر والمخدرات. وبالتالي فإن أي دولة تطل على البحر الأحمر، مثل السودان، تكتسب أهمية مضاعفة في معادلات الأمن الإقليمي والدولي، ليس لكونها صاحبة منفذ بحري فقط، وإنما لكونها طرفًا فاعلًا أو مفعولًا به في لعبة التوازنات الكبرى.

أهمية موقع السودان

يشكّل الساحل السوداني على البحر الأحمر، الممتد لأكثر من 720 كيلومتراً، أطول واجهة بحرية في الإقليم الغربي للبحر الأحمر، ما يمنح السودان موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية. هذا الامتداد الساحلي لا يمكّن السودان فقط من الاتصال المباشر بالعالم عبر الموانئ البحرية، بل يجعله حلقة وصل بين قلب إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا.

وتنبع أهمية موقع السودان من عدة جوانب:

1) السيطرة على خطوط التجارة والإمداد:
يطل السودان على الممرات البحرية التي تمر عبرها السفن التجارية وناقلات النفط والغاز في طريقها إلى قناة السويس شمالًا أو مضيق باب المندب جنوبًا. وهو ما يمنحه قدرة على التأثير في حركة التجارة الإقليمية والدولية إذا ما أحسن استغلال موقعه.

2) منافذ استراتيجية للموارد:
يشكّل الساحل السوداني بوابة طبيعية لتصدير النفط (قبل انفصال الجنوب وبعده عبر ميناء بشائر)، وكذلك المعادن (كالذهب وخام الحديد) والمحاصيل الزراعية (كالسمسم والصمغ العربي والحبوب). وبذلك فإن الموانئ ليست مجرد منافذ للتصدير، بل هي شرايين الاقتصاد السوداني.

3) فرص لوجستية وصناعية:
إن قرب السودان من أسواق الخليج وآسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر، ومن عمق إفريقيا عبر حدوده البرية، يمنحه ميزة ليصبح مركزًا لوجستيًا وصناعيًا يخدم التجارة العابرة للقارات. فبورتسودان وسواكن، إذا ما طُوّرت، يمكن أن تتحول إلى مناطق حرة ومراكز لإعادة التصدير والتوزيع تخدم دول الجوار غير الساحلية (تشاد، إثيوبيا، جنوب السودان، إفريقيا الوسطى).

4) البعد الأمني – الاستراتيجي:
وجود السودان في نقطة وسط بين مصر شمالًا والسعودية شرقًا واليمن جنوبًا يجعله عنصرًا رئيسيًا في أي معادلة تخص أمن البحر الأحمر. وبالتالي، فإن السيطرة على الموانئ السودانية أو التأثير فيها هو هدف دائم للقوى الإقليمية والدولية.

أهمية الموانئ بالبحر الأحمر بشكل عام

الموانئ هي المفاصل الحيوية للاقتصاد البحري العالمي، وهي أكثر من مجرد مرافق تجارية. أهميتها تتجلى في عدة وظائف ومستويات:

1) الوظيفة الاقتصادية:

الموانئ هي نقاط تجميع وتوزيع للبضائع والطاقة، حيث تمر من خلالها معظم صادرات وواردات الدول.

تتحول الموانئ الكبرى إلى مراكز لوجستية تستقطب الصناعات المرتبطة بالنقل والتخزين، مثل الصناعات الغذائية والنفطية والبتروكيميائية.

مثلًا، ميناء جدة الإسلامي في السعودية يستوعب أكثر من 130 مليون طن سنويًا، فيما أن موانئ جيبوتي تمثل الشريان الاقتصادي لإثيوبيا غير الساحلية.

2) الوظيفة الاستراتيجية:

الموانئ ليست فقط منافذ تجارية، بل هي قواعد لوجستية عسكرية يمكن من خلالها تأمين خطوط الإمداد ونشر القوات البحرية.

السيطرة على ميناء حيوي تعني امتلاك ورقة ضغط على خصوم إقليميين أو دوليين، كما هو الحال في الصراع حول ميناء الحديدة في اليمن الذي تحوّل إلى ساحة نزاع كبرى نظرًا لموقعه قرب باب المندب.

3) الوظيفة الأمنية:

الموانئ تُستخدم لمكافحة التهريب والقرصنة وعمليات الإرهاب البحري.

غياب السيطرة الأمنية عليها يفتح الباب لتهريب السلاح والمخدرات والبشر، وهو ما يجعلها محط اهتمام المنظمات الدولية والتحالفات البحرية.

4) الوظيفة الجيوسياسية:

تتحول بعض الموانئ إلى أدوات نفوذ سياسي تستخدمها الدول لمدّ سيطرتها الإقليمية أو لبسط هيمنتها على طرق التجارة.

مثال ذلك: استثمارات الإمارات في موانئ جيبوتي وإريتريا واليمن و الصومال، والتي لم تكن اقتصادية فقط بل كانت أدوات لتعزيز حضورها العسكري والسياسي على البحر الأحمر.

بهذا الشكل يصبح موقع السودان وموانئه أكثر من مجرد منافذ للتجارة؛ إنما عناصر حاكمة في أمن البحر الأحمر وتوازناته الاقتصادية والسياسية.

أهم الموانئ على البحر الأحمر

يشكل البحر الأحمر شبكة متكاملة من الموانئ المتوزعة على ضفتيه الشرقية والغربية، ولكل منها وظيفة اقتصادية أو عسكرية خاصة، تسهم مجتمعة في جعل هذا البحر ممرًا استراتيجيًا عالميًا:

السودان: يضم عدة موانئ أبرزها ميناء بورتسودان، وهو الميناء الرئيسي والأكثر نشاطًا، إضافة إلى ميناء سواكن الذي يختص بنقل الركاب والحجاج، وميناء بشائر الخاص بتصدير النفط، فضلًا عن مشاريع موانئ مقترحة مثل عقيق وأبو عمامة.

السعودية: تمتلك أكبر شبكة موانئ على البحر الأحمر، أبرزها ميناء جدة الإسلامي (أكبر ميناء في المنطقة بطاقة تفوق 130 مليون طن سنويًا)، إلى جانب ينبع المتخصص في الصناعات البتروكيميائية، وضبا وجازان كموانئ متعددة الأغراض.
تتوزع الموانئ السعودية على البحر الأحمر بشكل متوازن نوعياً وجغرافياً، حيث تتوزع من الشمال موانئ (ضبا، الوجه، أملج)، وفي الوسط نجد موانيء (ينبع التجاري، ينبع الصناعي، جدة الإسلامي، الملك عبدالله الذي يعتبر من احدث و اكبر الموانيء)، و في الجنوب ميناء جازان.

اليمن: تضم موانئ تاريخية مثل الحديدة والمخا وعدن (وإن كانت على بحر العرب فهي على تماس مع مضيق باب المندب)، وقد تضررت بفعل الحرب لكنها تظل ذات أهمية قصوى لقربها من المضيق.

مصر: تعتمد على موانئ السويس وسفاجا والغردقة على البحر الأحمر، والتي تدعمها ميزة قناة السويس باعتبارها شريانًا عالميًا للتجارة.

جيبوتي: يبرز فيها ميناء دوراليه الذي تحوّل إلى قاعدة لوجستية دولية تستضيف استثمارات صينية وأمريكية وفرنسية ويُعد الشريان البحري الحيوي لإثيوبيا غير الساحلية.

منطقة الصومال: يضم ميناء بربرة بارض الصومال الذي أصبح محط اهتمام إماراتي، وبوصاصو ببونتلاند، و الذي يرتبط بالأنشطة التجارية الإقليمية.

إريتريا: تعتمد على موانئ عصب ومصوع، وهما أقل تطورًا، لكنهما استُخدما كقواعد عسكرية في النزاعات الإقليمية.

الأردن: ميناء العقبة الذي يمثل نافذة المملكة الوحيدة على البحر الأحمر.

إسرائيل: ميناء إيلات الذي يشكل منفذها البحري الجنوبي نحو آسيا وإفريقيا.

هذا التوزيع يعكس حقيقة أن كل ميناء في البحر الأحمر ليس مجرد منشأة تجارية، بل ورقة جيوسياسية تُستخدم في الصراعات الإقليمية والدولية.

استعراض تاريخي لموانئ السودان

شهد السودان بداية النشاط المينائي الحديث في ظل الحقبة الاستعمارية البريطانية – المصرية، حيث كان ميناء سواكن هو المركز التاريخي للتجارة والحجاج عبر البحر الأحمر لعدة قرون، خاصة في العهد العثماني. إلا أن ضيق الميناء وصعوبة التوسع فيه، بجانب تطور السفن الحديثة، دفع السلطات البريطانية إلى إنشاء ميناء بورتسودان عام 1909 ليكون بديلاً عصريًا أكثر قدرة على استيعاب حركة التجارة.

مع تأسيس بورتسودان، بدأ السودان يدخل مرحلة جديدة من الانفتاح البحري:

خُصصت مرافق لصادرات الحبوب والصمغ العربي والقطن، وهي السلع التي شكّلت العمود الفقري لاقتصاد البلاد آنذاك.

لاحقًا أضيفت مرافق لصادر الثروة الحيوانية بميناء سواكن ثم أُنشِئ ميناء هيدوب كميناء مختص بصادر الثروة الحيوانية، ما جعل الميناء معبرًا رئيسيًا للماشية إلى أسواق الخليج.

في تسعينات القرن الماضي ومع ظهور النفط في السودان، تم إنشاء ميناء بشائر النفطي على بعد نحو 25 كلم جنوب بورتسودان لتصدير الخام.

كما خطط لموانئ تخصصية مثل أوسيف لتعنى بصادرات خام الحديد والمعادن، وسواكن لحركة الركاب والحج.

ورغم هذه التطورات، فإن النمو المينائي ظل متقطعًا ومحدودًا، حيث ارتبط دومًا بالأزمات السياسية والتقلبات الاقتصادية في البلاد:

غياب الاستثمارات الأجنبية الكبرى نتيجة الحروب الأهلية والعقوبات.

الاعتماد شبه الكلي على ميناء بورتسودان دون توسع جدي في موانئ بديلة او رديفة.

ضعف التخطيط الاستراتيجي، حيث ظلت الموانئ تُدار بمنطق “تسيير الأعمال” بدل أن تكون جزءًا من رؤية وطنية متكاملة.

وهكذا، بينما تحولت موانئ دول الجوار (مثل جدة في السعودية أو دوراليه في جيبوتي) إلى مراكز لوجستية عابرة للإقليم، ظلت موانئ السودان متأخرة نسبيًا، تعتمد على البنية التحتية القديمة وتفتقر إلى التحديث الشامل.

يتضح مما سبق أن البحر الأحمر لم يكن يومًا مجرد ممر مائي عابر، بل ظل عبر العصور ساحة نفوذ وتنافس، وأن موقع السودان الممتد على ضفته الغربية جعله لاعبًا أساسيًا في معادلات الأمن والتجارة الإقليمية والدولية. كما أن استعراض التاريخ المينائي السوداني يبين كيف ظل السودان حاضرًا في حركة البحر، لكن من دون أن يواكب التحولات الكبرى التي شهدها الإقليم، لتبقى موانئه متأخرة مقارنة بجيرانه، أسيرة البنية التقليدية وضعف الرؤية الاستراتيجية.

في الجزء الثاني، نتناول الموانئ السودانية السودانية الفاعلة و المقترحة، و نقارنها بموانئ الجوار، لنقف على حجم الفجوة التنموية والتنافسية، وكيف انعكست هذه الفوارق على واقع السودان البحري ومكانته في البحر الأحمر.

الإثنين 29 سبتمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!