
دون (جورج انجلش) في يومياته كثيرا من اللمحات الانسانية التي اتسم بها سلوك اسماعيل باشا قائد الحملة تجاه القوي المحلية ، دعما لأهدافه العسكرية. ومثل هذا السلوك يصاحب عادة العمليات الحربية ويعرف بـ(القوة الناعمة)، وقد استخدمه اسماعيل بمهارة فائقة لتأليف القلوب واقناع الخاصة والعامة من اهالي دولة سنار بالخضوع والامتثال لسلطته القاهرة ويده الطويلة مما كان له اثره البليغ في تسهيل انجاز المهمة التي اوكلها اليه والده حاكم مصر محمد علي باشا بالسيطرة الكاملة على كافة انحاء الديار السنارية. ولولا الانتكاسة التي حدثت في خواتيم ايام الغزو (محرقة شندي وحملة الدفتردار الانتقامية) ، لعاد اسماعيل إلى القاهرة منتصرا بفضل القوة الناعمة التي دعمت قوته العسكرية ، ومتصدرا للاحتفالات التي كانت قد اعدت لاستقباله.
تمثلت (القوة الناعمة) التي استخدمها إسماعيل – جنبا إلى جنب- مع القوة العسكرية الحاسمة ، في التدابير الآتية:
(1) استعراض القوة المظهرية لجيشه وعرض مظاهر الأبهة والفخامة التي تتسم بها الدولة المصرية الغازية لإحداث الاستسلام النفسي والمعنوي بين مكونات الدولة السنارية.
ففي جانب استعراض قوة الجيش الغازي يورد (انجلش) في يومياته ما توحيه المسيرة الطويلة لهذا الجيش عبر السهول والوديان والصحاري والقرى السودانية من رهبة، وما ترسله من اشارات عن ضخامته ودقة تنظيمه وتنوع عتاده. ثم ينتقل من هذه الصورة المجملة إلى صورة اكثر تأثيرا حين وصف كيف استقبل الباشا كبار ضباط سلطان سنار وحاشيته موفدين من السلطان لإعلان استسلام الدولة لسلطة الغزو فقال: (نصبت خيمة الباشا واذن لوفد السلطان بالمثول امامه وعاملهم بتقدير وتسامح عظيمين واتاح لهم الاطلاع على البون الشاسع بين اسلحتهم البدائية في مقابل اسلحته الماضية.. وفي المساء اطلقت الالعاب النارية ترويحا وتنويرا لهم بمظاهر قوة الجيش، فكانت دهشتهم – وهذا ما كان الباشا بلا شك يرمي اليه – تعبيرا عن الاحساس بالضعف وقلة الحيلة والاستلام إلى القوة التي لا قبل لهم بها.
اما بالنسبة لمظاهر الابهة التي استعرضها (انجلش) في اليوميات فقد اخترنا منها قوله يصف فخامة خيمة الباشا وحراستها وأثاثها : (يقوم الضباط العظام الذين يشرفون على خدمة الباشا بنصب خيامهم إلى يمين ويسار خيمته بينما ينصب حرسه الشخصي خيامهم في شكل نصف دائرة حول مؤخرة الخيمة التي تحاكي افخم القصور العسكرية وهي تتكون من ثلاثة اجزاء: اولها جناح مستدير مغلق ومبهرج الألوان تعلوه كرة ذهبية ضخمة . ويعتبر هذا الجناح بمثابة شقة خصوصية ملحقة بالمدخل الذي يشكل قاعة مغلقة فاخرة الأثاث تستخدم مأدبة وغرفة استقبال للضيوف الخصوصيين. وفي هذه القاعة يقف حرس الباشا الخصوصي بسلاحه ساهرا كل ليلة على سلامة سيده النائم. اما الجزء الثالث من هذه الخيمة فرواق تفصله عن القاعة ستارتان احداهما من حرير قرمزي والاخرى من نسيج مطّرز . هنا يجلس الباشا على اريكة ويستقبل عامة الناس ويستمع إلى شكاواهم ودعاواهم ويصدر احكامه، وكذلك يتلقى البيعة من زعماء البلاد التي خضعت لسلطانه ، ومن هذه القاعة يصدر أوامره لضباط جيشه. ويحيط الحرس بالخيمة من الخارج في يقظة وترقب كل ليلة. وعلى وجه التقريب فإن هذه الخيمة – المصنوعة من قماش (القنّب) المصبوغ باللون الأخضر المخطط بزخارف انيقة ، وتعلو اعمدتها كرات مذهبة وتبلغ من الطول مائة قدم. اما ارضها فمكسوة بسجاد اعجمي عليه مساند فاخرة. وامام الخيمة يخفق علم الباشا وتقبع زهريات لنبات (ذيل الخيل) تستبدل بثريات زجاجية ليلا.
بتلك القوة المادية العسكرية الشاخصة وبهذه الفخامة والأبهة المدهشة، استطاع الباشا ان يؤثر على عامة وخاصة اهالي سنار
بما يخفف من مشاعرهم العدوانية تجاه الحملة ويحيّد موقفهم من التصادم معها او مواجهتها.
(2) منح الأمان والعفو عن كل من القى السلاح واعلن استسلامه، حيث يقول (انجلش) في هذا الصدد: (إن النجاح الاستثنائي الذي حققته الحملة – والذي لم يكلف سوى مائتين من الجنود – يرجع إلى سبب اساسي وهو انسانية ونزاهة الباشا تجاه البلاد التي استسلمت له بغير قتال. فقد تم تأمين أشخاص وممتلكات الذين لم يبدوا مقاومة، وصدرت عقوبات صارمة على قليل من جنود جيشه الذين خرقوا هذه القاعدة . وقد انعكست آثار هذا السلوك بصورة جلية وجيدة على اهل البلاد. فقد رأي الجميع ان الذين فضلّوا السلام قبل الحرب، نالوه بغير قتال. وأن الذين انحازوا إلي الحرب دون السلام ، خسروا فرصة الامان وكان الثمن أهوالا من الخراب والدمار).
ويورد (انجلش) طريقة تعامل الباشا مع الابرياء الذين كانوا في مرمي نيرانه وفروا من محيط ميدان معركة كورتي، فيقول: (وجد الجنود في القرى القريبة مئات عديدة من النساء وحوالي مائتي رجل من المزارعين الذين لجأوا إلى هذه الناحية اثناء احتدام تلك المعركة بين عصابات النهب وجيش الباشا. ولولا انهم حصلوا على أمان مكتوب من الباشا لفتك بهم الجنود.)
وإذن فقد كانت هناك حماية كافية من قبل اسماعيل للذين لم تكن لهم ناقة ولا جمل في الصراع.
(3) بسط الباشا فضيلة العدل لكسب ثقة عامة الناس مما خلق قاعدة واسعة من التأييد والقبول لسلطتة والاذعان لها . وهناك امثلة عديدة تدعم هذا التوجه السلمي يوردها (انجلش) في يومياته ، منها : كبح جماح الجنود عند حدوث احتكاكات فردية مع الاهالي في القرى والأسواق نسبة لتعذر حصول الجنود على الغذاء بسهولة مما دفعهم للنهب والاعتداء علي أولئك الاهالي ، ومن امثلة ذلك رد الممتلكات المنهوبة لأصحابها، و عدم اخذ الناس بالشبهات.
(4) إكرام زعماء القبائل الذين جاءوا مستسلمين للحملة . وهذا عمل له صداه وتأثيره على افئدة الزعماء انفسهم ومن ثم على رعاياهم.
وقد استعرض (انجلش) هيئة التكريم والاحترام الذي تلقاه المك نمر والملك شاويش والملك نصر الدين . غير ان هناك مثالا مثيرا في سياق اكرام الملوك نورده كما جاء في اليوميات. قال (انجلش) : (عندما اقترب جنودنا من حصن الملك صبير هربت ابنته ذات الخمسة عشر ربيعا مخلفة من ورائها فردة من حذائها (الصندل) . فأخذها الجنود اسيرة إلى الباشا الذي البسها افخر الثياب التركية واعادها الي ابيها لتحثه على الاستسلام بحجة ان ذلك يكسبه صداقة الرجال الشجعان لا عداوتهم. وعندما وصلت الفتاة إلى معسكر ابيها، سألها: يا بنيتي هل عدت إلى ابيك دون ان تفقدي شرفك؟
فأجابته الفتاة قائلة : وهل كنت اجرأ ان ارفع رأسي لو جلبت لك العار؟ … لقد عاملني الباشا كما لو اني كنت احدى بناته، والبسني هذا الذي ترى . وهو يرغب في أن يسود السلام معك. فتأثر (صبير) بما قالته ابنته وحاول ان يقيم سلاما مع الباشا الا ان رغبته اصطدمت بعناد رؤساء الشايقية.)
هكذا افلح اسماعيل باشا في استخدام سياسة (القوة الناعمة) لإسناد قوته العسكرية الضاربة. الا ان طبيعة (القوة الناعمة) تبقى مهما اتسمت بالنعومة والرقة، ضربا من الخداع والتكتيك والمراوغة.
انها جزرة في مقابل العصا الغليظة، وابتسامة صفراء من غريم قوي .. واطرف ما قيل فيها انها مثل دموع المرأة تبدي اكثر مما تخفي، أوهي مثل (تشتيت الكرة) في لغة (المستديرة)كما يقول اساطين و(اناطين) الرياضة.
(ونواصل)