الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

من يطيع من: هل الحكومة تطيع الشعب أم الشعب يطيع الحكومة؟

محمد الحاج

في قلب كل دولة، هناك علاقة معقدة لكنها أساسية بين الشعب والحكومة. هذه العلاقة ليست مجرد طاعة أو أمر، بل هي توازن دقيق بين الحقوق والواجبات، بين السلطة والإرادة الشعبية، وبين القانون والمطالب. كثيراً ما يتساءل المواطن البسيط: من يطيع من؟ هل الحكومة تطيع الشعب أم الشعب يطيع الحكومة؟ والإجابة ليست بسيطة، لكنها تبدأ من فهم طبيعة هذه العلاقة.

الحكومة ليست كياناً منفصلاً عن الشعب، بل هي نتاجه. في الأنظمة الديمقراطية، يُنتخب المسؤولون من قبل الشعب، ويُفترض أن يعملوا لخدمة مصالحه. هذا يعني أن الحكومة، من حيث المبدأ، يجب أن تطيع إرادة الشعب، لأنها تستمد شرعيتها منه. لكن في الواقع، الأمور لا تسير دائماً بهذه السلاسة. فالحكومة، بحكم مسؤولياتها، تتخذ قرارات قد لا يفهمها المواطن أو لا يوافق عليها، مما يخلق شعوراً بأن الشعب هو من يطيع الحكومة، لا العكس.

لكي نفهم هذه العلاقة بشكل أفضل، يجب أن نبدأ من الحقوق والواجبات. المواطن له حقوق مشروعة، مثل الحق في التعليم، الصحة، العمل، السكن، التعبير عن الرأي، والمشاركة السياسية. هذه الحقوق ليست منّة من الدولة، بل هي مكفولة بالقانون والدستور. لكن بالمقابل، على المواطن واجبات أيضاً، مثل احترام القانون، دفع الضرائب، الحفاظ على النظام العام، والمشاركة الإيجابية في المجتمع. لا يمكن أن تُفهم الحقوق بمعزل عن الواجبات، فالمطالبة بالحقوق دون الالتزام بالواجبات تخلق خللاً في العلاقة بين المواطن والدولة.

عندما يطالب المواطن بحقوقه، يجب أن يفعل ذلك بطرق قانونية وسلمية. الاحتجاج، التعبير، الكتابة، التصويت، والمشاركة في النقاش العام كلها أدوات مشروعة للتأثير على الحكومة. لكن استخدام العنف أو الفوضى لا يؤدي إلى تحقيق الحقوق، بل يضعف الدولة ويضر بالمجتمع ككل. من المهم أن يفهم المواطن أن الطريق إلى الحقوق يمر عبر القانون، لا خارجه.

الحكومة، من جهتها، ليست مجرد مجموعة من الأشخاص في مكاتب رسمية. إنها جهاز إداري ضخم، يتعامل مع قضايا معقدة، مثل الاقتصاد، الأمن، الصحة، التعليم، العلاقات الدولية، وغيرها. اتخاذ القرار داخل الحكومة ليس دائماً سهلاً أو سريعاً. هناك مصالح متضاربة، ضغوط خارجية، قيود مالية، وأحياناً أخطاء في التقدير. لذلك، قد تصدر قرارات لا يفهمها المواطن أو يراها غير عادلة، لكنها قد تكون ضرورية من وجهة نظر إدارة الدولة.

هنا يأتي دور الوعي. المواطن الواعي لا يكتفي بالاعتراض، بل يسعى لفهم خلفيات القرار، يقرأ، يسأل، يناقش، ويشارك في الحياة العامة. هذا النوع من المواطن هو الذي تستطيع الحكومة أن تطيعه، لأنه لا يطالب فقط، بل يشارك في بناء القرار. أما المواطن غير الواعي، فقد يطالب بما لا يمكن تحقيقه، أو يعارض دون معرفة، مما يجعل العلاقة بينه وبين الحكومة متوترة وغير منتجة.

في بعض الأحيان، يشعر المواطن بأن الحكومة لا تستمع له، أو أنها تتجاهل مطالبه. هذا الإحساس قد يكون حقيقياً، لكنه لا يعني أن الطريق مسدود. هناك مؤسسات يمكن اللجوء إليها، مثل البرلمان، القضاء، الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني. هذه الجهات تلعب دور الوسيط بين المواطن والحكومة، وتساعد في إيصال الصوت والمطالبة بالحقوق. استخدام هذه القنوات بشكل ذكي وفعال هو ما يميز المواطن الواعي عن غيره.

من المهم أيضاً أن نفهم أن الحكومة ليست عدو الشعب، كما أن الشعب ليس عبداً للحكومة. العلاقة بينهما يجب أن تكون شراكة، تقوم على الاحترام المتبادل، الثقة، والمساءلة. الحكومة يجب أن تكون شفافة في قراراتها، وتشرح للمواطن أسباب ما تقوم به. والمواطن يجب أن يكون مسؤولاً في مطالبه، ويشارك في بناء وطنه، لا فقط في انتقاد من يديره.

في النهاية، السؤال “من يطيع من؟” لا يمكن الإجابة عليه بجملة واحدة. في الدول التي تحترم القانون، الحكومة تطيع الشعب من خلال تنفيذ إرادته، والشعب يطيع الحكومة من خلال احترام قوانينها. إنها علاقة دائرية، كل طرف يؤثر في الآخر، وكل طرف مسؤول عن نجاحها أو فشلها. المواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته، ويطالب بها بطريقة قانونية، هو الذي يساهم في بناء دولة قوية وعادلة. والحكومة التي تستمع لمواطنيها، وتعمل بشفافية، هي التي تستحق الطاعة والاحترام.

رفع الوعي لدى المواطن يبدأ من فهم هذه العلاقة، ومن إدراك أن الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع بالقانون، وأن الواجبات ليست عبئاً، بل جزء من المواطنة الحقيقية. حين يفهم المواطن ذلك، يصبح شريكاً حقيقياً في إدارة وطنه، لا مجرد متفرج أو معترض. وحين تفهم الحكومة ذلك، تصبح خادمة للشعب، لا متسلطة عليه. وبين هذا وذاك، تبنى الأوطان وتُصان الكرامة.

محمد الحاج
١٦ اغسطس ٢٠٢٥

اترك رد

error: Content is protected !!