
1
هناك ثلاثة زوايا نظرتُ من خلالها لرحلة الرئيس البرهان إلى زيورخ: المرج، والهرج، والفرح. أمّا المَرَج فهو اختلاط الأمر واضطرابه، وهذا ما حدث.
منذ أن نشر الأستاذ محمد عثمان إبراهيم خبر مغادرة الرئيس البرهان إلى جنيف، ضجّت الأسافير كعادتها، وتبارى الصحفيون والناشطون في نفي وإثبات الخبر. واحتار الناس في كنه أمر هذه السفرية وطبيعة اللقاء الذي سيجري هناك… أطرافه… أجندته… هل هو لقاء مع بولس مستشار ترمب لتوضيح المواقف، أم لقاء مع آخرين لم يظهروا بعد على المسرح، أم هو تفاوض مع كفيل الجنجويد؟ ثم ظهرت في الرادار الطائرة القطرية!! إذن ما دور قطر؟ هل هي منسّق الرحلة أم وسيط، أم مجرد مسهّل ومساعد في الجانب اللوجستي؟ أم أن الدوحة هي مهندسة اللقاء من الألف إلى الياء؟
2
حدث الهرج لأن الدولة ترفض أن تتكرم ببضعة أسطر على الشعب تقول فيها مثلاً:
بناء على طلب الرئيس الأمريكي، سيغادر السيد الرئيس البرهان إلى زيورخ للقاء مستشار الرئيس الأمريكي بولس لتوضيح وجهة نظر الدولة في الحرب التي تشنها المليشيات المتمردة، والسبل لإنهائها.
وحينها سيقول الشعب: “توكّل على بركة الله”، وسيغادر الرئيس في وضح النهار ويعود كذلك. وبعد عودته، سيصدر خبر من مجلس السيادة: عاد الرئيس إلى البلاد سالمًا بعد زيارة قصيرة التقى خلالها مبعوث الرئيس الأمريكي وأكد موقف السودان الثابت في البحث عن السلام الذي يضمن وحدة البلاد. لو حدث ذلك، لقال الشعب: “شكرًا سيدي الرئيس، عبّرت عنا تمامًا، ونحن خلفك… وإلى نصر وفتح قريب”.
3
أمّا الفرح الذي أحدثته تلك الزيارة فهو مستحق للذكر، إذ إن ضبط ساعة الزلزلة لم يعد بأيدي الآخرين بل بأيدينا. كان السؤال الذي طغى على الميديا هو: ما موقف البرهان؟ وماذا قال؟
في زمنٍ مضى، كان السؤال مقلوبًا: ماذا قال الأمريكان للرئيس البرهان؟ وماذا سيفعل البرهان؟
لقد عرفوا تصريحات الرئيس من خلال خطاباته حتى الأسبوع الماضي حين قال: “سنقاتل حتى ندحر المليشيا”، ورأوا مواقفه حين أرسل وفد أبو نمو إلى جدة ورفض عرض الأمريكان، وسفّه أحلامهم. ثم انتظروه في جنيف ليأتي مهرولًا ولم يفعل، وطال انتظارهم عشرة أيام في ذلك الحين. ومرة أخرى في مؤتمر لندن لم يعبأ بتهديداتهم، فذهبت كلها أدراج الرياح.
4
ما يبعث أيضا على السعادة أن ثبات موقف السودان أدى إلى زعزعة معسكر الرباعية وإضعافه، ما استدعى الاستعانة بمصر وقطر، وعزّز في الوقت ذاته موقف الاتحاد الأفريقي الذي أعلن مؤخرًا رفضه لأي حكومة موازية، معترفًا فقط بشرعية حكومة واحدة على رأسها السيد كامل إدريس، وهو ما رحّب به في بيانه الأخير.
وبالأمس، أصدر مجلس الأمن موقفًا مماثلًا، رافضًا أي حكومة موازية، ومطالبًا بفك الحصار عن المدن، وعلى رأسها الفاشر. وفي الوقت نفسه، توالت الإدانات الدولية لجرائم المليشيا في معسكري زمزم وأبو شوك، وكان آخرها إدانة مستشار الرئيس الأمريكي بولس أمس.
كل ذلك تحقق بصمود الشعب وتضحياته، لا كهبة أو منحة من المجتمع الدولي.
5
أمّا الفرح الأكبر، فقد جاء حين اتفقت كل الروايات على مقولة واحدة قالها الرئيس البرهان لمستشار الرئيس الأمريكي: “لا مستقبل للجنجويد في السودان”. وهذا هو المطلب الجوهري للشعب ولا شيء سواه.
الرئيس، الذي يقرأ نبض شعبه، عبّر عن إرادة أمة بكلمات حاسمة ومواقف واضحة، ولن يستطيع أن يحيد عن هذا المسار. الواهمون يظنون أنه سيخضع يومًا لضغوط الأمريكان ويعيد الجنجويد وحلفاءهم إلى الساحة السياسية.
يا هولاكو… الزمن تغيّر. نساء الفاشر، وهن في قلب الجوع والموت، حملن الكلاشينكوف، وهنادي قاتلت بالسكين حتى آخر رمق من حياتها. نساء الفاشر وهن يواجهن الجوع والموت بالسلاح الأبيض أثبتن أنهن أقوى من جيوش المرتزقة المدفوعة الأجر. فكيف يخضع البرهان والجيش، والشعب من خلفه، والقوات المشتركة بجانبه، لابتزاز أي طرف خارجي …. هيهات.
6
اليوم، وبينما يحتفل السودان بذكرى مئوية جيشه، تتجدد البيعة على المضي في طريق الدفاع عن الوطن وحفظ سيادته، بات واضحًا أن قرار رفض عودة المليشيا هو موقف استراتيجي راسخ، يستند إلى إرادة شعب قدّم تضحيات جسام ورفض أن تُختطف دولته. ومع تنامي الدعم الإقليمي والدولي لموقف السودان، وانكسار رهانات خصومه، تمضي معركة الكرامة بثقة نحو خواتيمها.
الجيش الذي صاغه الأجداد بدمائهم، والشعب الذي يلتف حوله اليوم، لن يسمحا بانتكاسة تعيد القتلة إلى جسد السلطة. والرسالة التي أطلقها البرهان من قلب احتفال الجيش جاءت قاطعة: لن نخون دماء الشهداء، ولن نفرّط في وحدة السودان، ولن نساوم على كرامته.