
يعجب المرء كيف تسنًي للخرطوم الثانوية القديمة الجمع بين شتات من طلاب توافدوا عليها من كل حدب وصوب ، وكيف رسمت من ملامحهم وسحناتهم وبيئاتهم واهتماماتهم وهواياتهم واستعداداتهم المختلفة،هذه اللوحة السريالية المتناسقة العجيبة؟
هناك اسباب موضوعية احالت ذاك التباين إلي تجانس وتقارب عفوي تلقائي حميد ، نذكر منها :
اولا: ان نظام التعليم الحكومي كان مفتوحا لكافة ابناء الوطن يدخلونه من باب المنافسة وعبرنتيجة الإمتحان وحدهما . وكان الباب مغلقا تماما امام اي اعتبارات اخري تتقاطع مع هذا النظام المفتوح.
ثانيا : كانت الخرطوم الثانوية القديمة هي المدرسة الوحيدة التي يتنافس علي دخولها طلاب المدارس الوسطي في مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري وضواحيهما ، وبالتالى فإن نوعية الناجحين الذين يدخلونها ينتسبون – عادة – إلي خليط من ابناء المدن وابناء البوادي . فتجد من بين طلابها من اتاها من بحري وأحيائها وقراها [شرقا حتي حلة كوكو والحاج يوسف وحطاب وابو قرون وماجاورها ، وشمالا حتي الجيلي] ، وكذلك من جاءها من الخرطوم وديومها وسجًانتها وحي مطارها وبراريها وما جاورها من أحياء لاهي قري ولا هي من البنادر.
ثالثا : كان الزي المدرسي الموحد (القميص الأبيض وبنطلون الكاكي القصير والشارة المدرسية الذهبية الجميلة) إلزاميا علي كل طلاب المدرسة ويستوي في ذلك ابن الوزير وابن الغفير ، وهذه لمحة شكلية لاتخلو من مغزي ومعني . وكم كان في المدرسة من ابناء الرؤساء وابناء الوزراء وابناء كبار موظفي الدولة وابناء اساتذة الجامعة وابناء الموسرين ، يجلسون جنبا إلي جنب مع زملائهم من ابناء العمال والمزارعين والرعاة والتجار ، دون ان يسود بينهم اي إحساس بفوارق طبقية اواجتماعية ودون اي سلوك شاذ من بعضهم ينم عن نزعة فوقية ، اوشعور من بعضهم الآخر بمراراتٍ دونية.
سنري في المقال القادم كيف انتجت هذه العوامل المتفاعلة جيلا من النابغين والمبدعين والقياديين الوفاقيين منهم والانقلابيين.
..ولله في خلقه شؤون.