
قبل شهرين من بداية سنة التخرج في جامعة الخرطوم ، كنت اقيم في داخليات الجامعة ضمن اللجنة المناوبة لاتحاد الطلاب المكلفة بتسيير شؤون الاتحاد اثناء الاجازة الصيفية.
في صبيحة ٢٥ مايو ١٩٦٩، وقبل شروق الشمس ، جاءنا من يقول إن انقلابا عسكريا قد وقع في البلاد…كانت الإذاعة قد افتتحت يومها بالقرآن الكريم كالمعتاد..لا مارشات عسكرية ولاتنويهات ببيان هام (فترقبوه) ولاشي من هذا القبيل.
كنا علي قناعة جازمة باستحالة حدوث انقلاب بعد أقل من خمس سنوات من ثورة اكتوبر ١٩٦٤ ، لكني رغم ذلك خرجت إلي شارع الجامعة لأستطلع الخبر. لم ار اي مركبة عسكرية او دبابة في الشارع. وفجاة أبصرت سيارة محملة بالجنود تتجه نحوي مباشرة ، مما دفعني لمحاولة الاحتماء بالسياج الخارجي للمبني الذي اقيم عليه فيما بعد المسجد الحالي لجامعة الخرطوم. وتوقفت السيارة العسكرية وخرج منها ضابط برتبة ملازم لم اتبيًن ملامحه او اعرفه إلا بعد ان خاطبني بقوله :ازيك يا Jeff….وهذا لقب لم يكن يطلقه عليً إلا شخص واحد من بين كل ابناء دفعتي في الخرطوم الثانوية القديمة هو احمد جبارة مختار..وكان معجبا بممثل سينمائي امريكي شهير اسمه Jeff Chndler يبدو أن احمد كان يري في وجهي شبها بوجهه.
ورغم ان احمد كان من ابناء دفعتي منذ المدرسة الإبتدائية والمدرسة الوسطي في الخرطوم بحري ثم في الخرطوم الثانوية القديمة..ورغم علاقة الصبا التي ربطت بيننا في حي الختمية ببحري منذ ايام كرة الشراب ولعبة ( الرًمة وحراسها)…رغم ذلك انتابني شيء من التوجس وقليل من الخوف بسبب اختلافنا الفكري والحزبي إذ كان احمد من ناشطي الجبهة الديمقراطية في المدرسة الثانوية وكانت بيننا مناكفات ومناوشات عديدة. لكن احمد -رحمه الله – عاجلني باحتضان ودود أدهش العساكر الذين كانوا علي ظهر تلك السيارة.
سالته : ما الذي يحدث ؟
قال : انقلاب.
استفسرته مستنكرا : إنقلاب بعد اكتوبر؟
لكنه ابتسم ولم يجبني. فخمنت ان وراء هذا الانقلاب جهة حزبية..ولم يدم هذا اللقاء العابر سوي دقيقة واحدة ، استقل احمد بعدها المركبة العسكرية وذهب كل منا الي حال سبيله.
عدت سريعا إلي الداخلية لأنقل صحة وقوع الانقلاب لمن كان موجودا من الطلاب. فوجدتهم يتحلقون حول جهاز راديو عتيق أخذ يبث بيانا من عقيد إسمه جعفر محمد النميري (هكذا بالألف واللام) يعلن فيه الاستيلاء علي السلطة. ثم تداعت الأحداث بعد ذلك وتمكن الانقلابيون من تثبيت حكمهم.
لم اقابل أحمد بعد ذلك سوي مرة واحدة كانت في مقهي المحطة الوسطي (الذي اصبح اليوم اثرا بعد عين ) ضمن ثلة العطالي الجامعيين الذين سردت حكايتهم في الحلقة السابقة. وكان الانقلاب حينها قد توطدت اركانه بما يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة. فقد قال لي احمد اثناء الونسة إن البلد سيحكمها عبد الخالق في اشارة مباشرة إلي السكرتير العام للحزب الشيوعي. ومن يومها اقتنعت ان احمد كان احد الكوادر العسكرية النافذة للحزب.
تم توظيفي في وزارة الشباب التي بعثتني مندوبا عنها إلي نيالا لتشييد مركز لشباب المدينة بالعون الذاتي والعمالة المتطوعة وهناك – ويا للصدف العجيبة – وجت عمي جبارة مختار (والد احمد) هو القائم علي قوة المطافيء بالمدينة.
بعد ثلاثة اشهر من وصولي إلي نيالا قام انقلاب هاشم العطا الذي تولي فيه احمد مهمة اعتقال نميري واعضاء مجلس ثورة ٢٥ مايو. وحدث بعد ذلك ما حدث وفشل الانقلاب الذي كان احمد جبارة اول من اعدم من منفذيه ، قبل قادته الكبار. وبالرغم من مرور ما يزيد عن نصف قرن علي اعدام احمد جبارة إلا ان حزني عليه (يتاورني) كلما وخزتني : ذكريات الصبا وايام امسٍ
في حي الختمية ومدرسة العزبة الاولية ومدرسة بحري الأهلية الوسطي ثم الخرطوم الثانوية القديمة حيث افترقنا بعدها..احمد إلي الكلية الحربية ، وشخصي إلي جامعة الخرطوم.
رحمه الله وغفر له. وكلنا لله وكلنا إليه راجعون.