
في يناير ١٩٧١تجمعنا نحن ثلة من خريجي الجامعات السودانية التي لم يتجاوز عددها – حتي ذلك العام – الثلاثة ( جامعة الخرطوم وجامعة القاهرة فرع الخرطوم والجامعة الاسلامية) واعتصمنا في قاعة اجتماعات وزارة العمل احتجاجا علي عدم توظيفنا في اجهزة الدولة بسبب قرار حكومة مايو تجميد الصرف علي الفصل الأول من الميزانية تقشفا ، وهو الفصل الذي يتم بموجبه التعيين في وظائف الدولة .
وكنا قد استنفدنا كل الوسائل والاتصالات الناعمة لعرض قضيتنا علي المسؤلين دون جدوي ، كان أبرزها لقاء عاصفا مع نميري – رئيس مجلس قيادة الثورة – بعد أن علمنا أنه سيخاطب مؤتمرا بقاعة الامتحانات في جامعة الخرطوم . وعندما خرج من القاعة تدافعنا لنقول له يا سيادتك نحن خريجو الجامعات الذين مازلنا نعاني من العطالة بعد عام من التخرج.. فرد علينا بشي من الغضب : (بلاش صع… ….امشوا مكتب العمل( فهتفنا ضده وجها لوجه وزففنا سيارته حتي خروجها من البوابة الرئيسية للجامعة…لم يضربنا حرسه بالرصاص الحي او الميت ولم يعتقل منا احد.
ورب ضارة نافعة ، فقد نبهنا الرجل إلي الجهة التي يمكننا ان نتعاطي معها رغم ان تلك الجهة لم تكن لها علاقة مباشرة بتوظيف الجامعيين. ولاننا كنا علي يقين من المماطلات البيروقراطية التي تنتظرنا في مصلحة العمل فقد تفتقت اذهاننا علي فكرة الاعتصام هناك.
دخلنا وزارة العمل في شكل جماعي دون ان يعترضنا بواب او استقبال لانه اصلا لم تكن فكرة البوابين ومكاتب الاستقبال قد دخلت نافوخ االخدمة المدنية حينئذ. ثم دلفنا إلي قاعة الوزارة ففتح لنا احد السعاة بابها دون ان يسالنا من انتم وماذا تريدون؟
وبلغ الخبر المدير الاداري للوزارة فجاءنا منزعجا يسال عن الخبر. فقلنا له نريد ان يأتي إلينا الوزير نفسه وكان الوزير هو المرحوم معاوية سورج . فجاء الرجل وتباسط معنا في حوار مرح .لكننا ( رفعنا سقف مطالبنا) وقلنا له لن نتحدث إلا مع احد أعضاء مجلس قيادة الثورة. فذهب الرجل وجاءنا بالمرحوم الرائد هاشم العطا عضو المجلس.
تحدث إلينا الرجل بهدوء ووعدنا بحل مشكلتنا في ظرف ثمانية واربعين ساعة واضاف قائلا: اذا لم يحدث ذلك ( فالقاعة قاعدة ويمكنكم ان تواصلوا اعتصامكم). فتم فض الاعتصام الناعم بناء علي هذا الوعد.واوفي هاشم بما وعد وبدا توظيفنا بالتدريج فتم حل مشكلة عطالتنا بتعيينا في مختلف مرافق الدولة. وتدرجنا في الوظائف ووصل بعضنا إلي رتبة الفريق في الجيش والشرطة ودرجة السفير في الخارجية ومدراء ووكلاء وزارات ، حتي بلغنا سن المعاش.
رحم الله هاشم العطا فقد تم اعدامه رميا بالرصاص عقب فشل انقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١ ، بعد خمسة اشهر من تعيينا في الخدمة العامة.
.. ونواصل نقل ما في الراس الي الكراس