
تميز اساتذتنا في الخرطوم الثانوية القديمة بصفات نادرة في سعة العلم ورجاحة العقل وكريم الأخلاق.
ابدا بهذه الطرفة النادرة لافتتح بها المقال في أولئك الأساتذة الأفاضل. فقد اكتشفنا ان المدرسة قد جمعت ثلاثة أجيال من المعلمين ، مصادفة ومن غير قصد او تدبير.
كان معلم الأجيال احمد البشير العبًادي ( نعم . احمد البشير العبادي..الواحد دا) يقوم بتدريس الرياضيات بعد ان استعانت به المدرسة (وكان يومها قد بلغ سن التقاعد) لسد النقص في معلمي هذه المادة . وقد دهشنا حينما وصل إلي علمنا أنه كان من اساتذة ناظر المدرسة الأستاذ – بجلالة قدره – عبد الباقي محمد ، وزادت دهشتنا عندما علمنا ان استاذ اللغة الإنجليزية محمد الحسن احمد الحاج (الذي اصبح لاحقا وزيرا لرئاسة مجلس الوزراء في عهد نميري) كان من تلاميذ الأستاذ عبد الباقي. وكنًا نسميًه – سرا – “تلميذ الناظر”. فانظر كيف كان جيلنا محظوظا ليتتلمذ علي هذه السلسلة من هؤلاء الجهابذة العماليق !
ومن الأساتذة الآخرين الذين تحتفظ بهم الذاكرة :
الأستاذ محمد سعيد معروف الذي حبب إلينا مادة التاريخ لا سردا مشوًقا فقط وإنما تحليلا وتفسيرا. ولعله قد استبطن – هنا – تجربته الفكرية التي يعود تاريخها إلي ايام انتمائه السابق للجبهة المعادية للاستعمار ، الأم الحنون للحزب الشيوعي السوداني. فقبل ان يلتحق الأستاذ معروف بسلك التدريس ، كان صحفيا يساريا معروفا ، اعاد النظر في مواقفه السياسية السابقة وفضًل الوظيفة الحكومية واخلص لها ، فانتهي به المطاف إلي رئاسة تحرير جريدة ” السودان الحديث” في عهد الانقاذ ثم ملحقا ثقافيا للسودان في مصر.
الاستاذ محمد عبد القادر كرف استاذ اللغة العربية وهو من خريجي المعهد العلمي بام درمان ورفيق دراسة للشاعر التجاني يوسف بشير وابن حيًه وهو شاعر ولغوي بارع.
الاستاذ محمد الحسن الصديق حفيد الشيخ حمد ود ام مريوم ، معلم التربية الاسلامية الذي سبق ان عاصرناه ناظرا لمدرستنا الأميرية الوسطي الشرقية ببحري قبل ان ينضم للخرطوم القديمة لاحقا . وهو اصلا من خريجي المدارس الحديثة ويتحدث الإنجليزية بطلاقة ، فتامل .
الأستاذ اسحق (مستر اسحق) الباكستاني ، مدرس العلوم المتديًن الذي كان يفتتح اجتماع المدرسة الأسبوعي : The Assembly بالقرآن الكريم ترتيلا وتجويدا يسحر الالباب.
الاستاذ محمد عثمان عبد الله معلم الرياضيات المتصوًف الزاهد الذي كان يفرض شخصيته علي الفصل لا بالصرامة ولا بالتجهم وانما بالكلمة الطيبة التي فرضت الهدوء والسكون علي (شفاتة) الأدراج الخلفية الذين احتار في ترويضهم اساتذة آخرون. وإن انسي لا انسي يوم ارتجفنا من التاثر حين افرغ جيبيْ بنطاله من ماله البسيط ووضعها علي منضدة الفصل قائلا: “انا الليلة عازمكم فطور”. فعل ذلك بعفوية بالغة لانه عرف بطريقة ما ان احد زملائنا لم يكن يملك ذلك اليوم (حق الفطور)..يا الله!
اساتذة الفنون الذين تراسهم الاستاذان عوض كرار والجنيد الذين حببانا في الفنون واثبتا لنا بيانا بالعمل ان المدخل إلي الترىية الفنية هو السماحة والبشاشة وحدها لاغير.
اذكر كذلك اساتذتنا المصريين : ابو العلا والدجوي وجرجس محارب واخوان لهم اخرون ، ثبًتوا في اذهاننا نوعا جديدا من كيفية ادارة الفصل وحب المشاركة وتبديد الرهبة من مصاعب التلقي مع تزويدنا بالفهم الرصين.
واختتم الحديث عن هذه الكوكبة من اساتذتنا الأجلاء ، بكلمة عن (ابناء جون) الذين تلقينا علي ايديهم دروس اللغة الإنجليزية نحوها وصرفها وادبها، فهما وتحدثا وكتابة. اذكرهم كلهم لمحدودية عددهم.
مستر اوتس Oats
ومستر Collier
ومستر Afriington
ومسز الخير: التي هي حرم استاذ الخير معلم الانجليزية السوداني ، وكانت السيدة الوحيدة في عالم يعج بالرجال.
..ونواصل.