الرواية الأولى

نروي لتعرف

تقارير

من أطلال المصانع إلى ورش صغيرة … قصص عمال في الخرطوم يعيدون بناء سبل عيشهم

في الصورة الملتقطة يوم 28 أكتوبر 2025، حداد يصلح هيكل سيارة تعرضت لأضرار في حي الثورة، المنطقة الرابعة، غربي مدينة أم درمان السودانية. (شينخوا)

رصد : الرواية الاولى

الخرطوم (شينخوا)

وسط الدمار الذي خلفته الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم، حيث تحولت المصانع الضخمة إلى هياكل معدنية خاوية، تعود الحياة ببطء داخل الأزقة الضيقة، حيث تتردد أصوات المطارق والمناشير، معلنة عن ميلاد حرف صغيرة تحاول ترميم ما تبقى من الأمل.

وبينما تدمرت المصانع التي كانت تضج يوما بالحياة، تحاول ورش صغيرة أقامها عمال فقدوا وظائفهم بعد أن دمرت الحرب خطوط الإنتاج، أن تُبقي على بصيص من الأمل في المدينة المنهكة.

وفي أزقة ضيقة تغمرها رائحة الحديد والزيت، يعمل حرفيون بأدوات صدئة ومواد شحيحة، يصنعون من بقايا الخراب ما يسد رمق أسرهم، بعضهم حول أركان منازل مهدمة إلى ورش بدائية، وآخرون نصبوا خياما من القماش المهترئ فوق الأرض الترابية ليواصلوا ما تبقى من مهنتهم.

في سوق الحارة الرابعة بمدينة أم درمان، يجلس الحرفي محمد عبد القادر أمام ورشة حدادة صغيرة، أنشأها قبل أشهر من بقايا معدات مصنع للحديد كان يعمل فيه قبل الحرب.

يتصبب العرق من جبينه وهو يطرق قطعة حديد محماة ليصنع منها بابا بسيطا لأحد المنازل، يقول عبد القادر وهو يلتقط أنفاسه “كنت أعمل في مصنع كبير للأثاث المعدني، كنا نُنتج مئات القطع شهريا، لكن بعد أن دُمر المصنع، وجدت نفسي بلا عمل ولا مأوى”.

ويضيف “أن العمل في هذه الورشة الصغيرة هو ما أبقاني على قيد الحياة، أعمل بمفردي، وأستخدم أدوات نجوتُ بها من تحت الركام”.

غير بعيد عنه، تُسمع أصوات مكائن الخياطة القادمة من، غرفة ضيقة حولتها فاطمة الطاهر إلى ورشة صغيرة للخياطة.

كانت فاطمة تعمل في مصنعٍ للملابس الجاهزة أُغلق بعد أن نُهب في بداية القتال، واليوم، تخيط الملابس للأطفال والنساء من بقايا أقمشة جمعتها من الأسواق.

ترتدي فاطمة ثوبا بسيطا مرقعا، لكن ابتسامتها تشع دفئا وهي تقلب الأقمشة بين يديها، تقول ” كنت أعمل في مصنع ضخم للملابس، كنا عشرات العاملات، ضحكنا كثيراً هناك… واليوم أنا وحدي، لكني أُخيط من أجل البقاء، من أجل أولادي، من أجل ألا أنسى من كنت فيه “.

وتضيف فاطمة، البالغة من العمر 43 عاما “كنت أرى أن المصنع هو بيتي الثاني، لكن الحرب سرقت كل شيء، عدت أبدأ من الصفر، زبائني اليوم من الجيران والنازحين، أحيك لهم بثمن رمزي، المهم ألا نتوقف عن العمل”.

في زاوية الغرفة تجلس ابنتها الصغيرة تراقبها، تلعب بقطع قماش ملونة وتضحك، فتبتسم فاطمة وتتابع خياطتها، كما لو كانت تزرع أملا في القماش.

في حي الحاج يوسف بشرق الخرطوم، يستعيد عبد الله حسين، الذي كان فنياً في مصنعٍ للألمنيوم، نشاطه تدريجيا بعد أن استأجر غرفة مهجورة ليحولها إلى ورشة صغيرةٍلإصلاح النوافذ والأبواب.

وقال ” لم يعد لدينا مصانع، لكننا نحاول أن نعيد بناء رزقنا قطعة قطعة، نعمل بأيدينا، ونتقاسم الأدوات بيننا، حتى الكهرباء نولدها من مولدات بسيطة”.

داخل الورشة الصغيرة التي بالكاد تتسع لجسده وأدواته، يطرق حسين الحديد بعزم يشبه الإصرار على البقاء، ويقول وهو يمسح العرق عن جبينه الملوث بالغبار “كل ما تبقى من المصنع الذي كنت أعمل فيه هو هذه المطرقة وهذا المقعد الخشبي، لم أنتظر أحدا ليساعدني…صنعت بابي من بقايا الباب الذي تهدم”.

صوت مطرقته لا يدوي في الحديد فحسب، بل في ذاكرة المدينة التي تحاول أن تتذكّر كيف كانت تضج بالحياة.

وفي ورشةٍ صغيرة بمنطقة كوبر بمدينة الخرطوم بحري، يجلس عبد المطلب عبد الماجد، نجار في الخمسين من عمره، على مقعد خشبي قديم يصقله بيده بحركة واثقة، لم تفارقه ابتسامة هادئة رغم تعب الأيام.

يقول وهو يشير إلى الأخشاب المبعثرة حوله “كانت لدي ورشة كبيرة في المنطقة الصناعية، فيها ستة عمال، وكنا نصنع الأبواب والنوافذ للمنازل الجديدة، الآن لم يبق إلا أنا وابني، وهذه الأخشاب جمعناها من أنقاض البيوت المحترقة، أحيانا نعمل أياما دون كهرباء أو زبائن، لكننا لا نستسلم، لأننا إن توقفنا نموت معنويا قبل أن نجوع”.

يتحدث عبد المطلب بصوت مبحوح يختلط برائحة الغبار ونشارة الخشب، ثم يتابع وهو يمرر يده على لوح قديم “النجارة بالنسبة لي ليست مهنة فقط، إنها حياة، الخشب علمني الصبر، وكل قطعة منه تحمل قصة، مثلنا نحن الذين بقينا نحاول أن نعيد ترتيب ما كسرته الحرب”.

خلفه تتناثر أدواته البسيطة–منشار يدوي، ومطرقة فقدت مقبضها الأصلي، ومسامير جُمعت من هنا وهناك … لكنها بالنسبة له ثروة صغيرة تحفظ كرامته في زمن صار فيه البقاء عملا بطوليا.

ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور الطيب الحسن إن هذه المبادرات “تمثل نواة لاقتصاد ظل منتج”، موضحا “رغم محدودية الموارد، فإن ما يقوم به هؤلاء الحرفيون يعكس قدرة المجتمع السوداني على التكيف، إنهم يعيدون بناء الاقتصاد من الأسفل، من الأفراد والورش الصغيرة، وهو ما قد يشكل لاحقا قاعدة لإعادة الإعمار الشامل”.

ويضيف الحسن أن انتشار الورش الصغيرة والحِرَف المنزلية “يساعد في امتصاص البطالة ويخفف الضغط على المنظمات الإنسانية، لكنه أيضا يبرز أهمية الدعم الرسمي لهذه المبادرات، وضرورة وضع برامج تمويل صغيرة ومنح للحرفيين”.

ويتابع قائلا “إن هذه الظاهرة ليست مجرد كفاحٍ فردي، بل نواة لاقتصاد جديد يولد من رحم المعاناة، وعندما تنهار المؤسسات، يعود الإنسان إلى الحرفة، هذه الورش الصغيرة هي النبض الحقيقي لإعادة الإعمار”.

ويشير الحسن إلى أن هذه الورش الصغيرة تمثل جزءاً من الاقتصاد غير الرسمي في الخرطوم، وتوفر فرص عمل بديلة، مع الحفاظ على المهارات اليدوية وتعزيز روح التعاون بين أفراد المجتمع المحلي.

ويضيف “استمرار هذه الورش ودعمها قد يشكل قاعدةً لإعادة الإعمار الاقتصادي المستدام على المدى الطويل، ويظهر قدرة السكان على تحويل التحديات إلى فرصٍ في غياب الدعم الرسمي.■

اترك رد

error: Content is protected !!