
تمثل الصناعات الدفاعية إحدى أعمدة القوة الاستراتيجية في أي دولة، إذ لا يُنظر إليها بوصفها مجرد إنتاجٍ للسلاح والمعدات العسكرية، بل باعتبارها مكوّنًا جوهريًا من مكوّنات قوى الدولة الشاملة: العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والسياسية.
فالدول التي تمتلك قاعدة صناعية دفاعية متينة، قادرة على التحرر من التبعية الاستراتيجية، وبسط سيادتها الوطنية، وتعزيز موقعها في ميزان القوى الإقليمي والدولي. كما أن هذه الصناعات، بطبيعتها التقنية والتكنولوجية المتقدمة، تشكل قاطرةً للتنمية الاقتصادية، عبر توطين المعرفة، وبناء القدرات، وتحفيز الابتكار، وإيجاد فرص عمل عالية القيمة.
وفي ظل التحولات السريعة التي تنتظم العالم و تتسم بها حركة الحياة الحديثة، لم تعد الصناعات الدفاعية ترفًا أو رفاهية، بل أصبحت ضرورة وجودية لأي دولة تسعى إلى حماية سيادتها، وردع خصومها، ودعم حلفائها، وضمان أمنها القومي وتنميتها المستدامة.
تعود جذور الصناعة الدفاعية في السودان إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، حين تم افتتاح مصنع الذخيرة بمنطقة الشجرة بالخرطوم في عهد الرئيس الفريق إبراهيم عبود، في خطوة وُصفت آنذاك بأنها تاريخية لتعزيز استقلال القرار العسكري السوداني.
غير أن المنعطف الأهم كان في منتصف تسعينات القرن الماضي، مع تأسيس هيئة التصنيع الحربي على يد مجموعة من المهندسين المدنيين والعسكريين والأمنيين الوطنيين، واضعين اللبنات الأولى لمشروع وطني استراتيجي بذروا بذرته الاولى حتى اضحي عملاقًا يشار اليه بالبنان.
بدأت الهيئة بخطوط إنتاج محدودة للأسلحة الخفيفة والذخائر بمجمع اليرموك، ثم توسعت إلى مجمع سابقات للمدفعيات، ومجمع إبراهيم شمس الدين للمدرعات، مع تطوير مصانع الذخيرة القائمة. هذه البداية المتواضعة سرعان ما تحولت إلى منظومة متكاملة من الصناعات الدفاعية تغطي مختلف القطاعات العسكرية و المدنية.
لم تقف الهيئة عند حدود تصنيع الأسلحة التقليدية، بل انتقلت تدريجيًا إلى صناعة الأسلحة الذكية والموجهة، مع تحسين نوعي مستمر شمل المدى، ودقة الإصابة، والكثافة النيرانية، وقوة التأثير. كما طورت منظومات القيادة والسيطرة ، ومعدات و منظومات القوات البرية و سلاح الطيران، والدفاع الجوي، والمعدات البحرية، لتغطي كامل احتياجات القوات المسلحة السودانية.
وقد تمكنت الهيئة خلال عقدين فقط من توطين الصناعة الدفاعية بدرجة عالية، لتصبح قادرة على تلبية معظم احتياجات الجيش والقوات النظامية، وتقليل الاعتماد على الخارج، رغم القيود والعقوبات المفروضة على البلاد منذ العام 1997م.
في مطلع الألفية، دخلت الهيئة مرحلة جديدة من التطور، إذ وسّعت أنشطتها لتشمل الصناعات المدنية الداعمة للقطاعين الدفاعي والاقتصادي، من آليات ومركبات، إلى تجهيزات بنية تحتية وخدمات لوجستية.
وأصبحت رافدًا اقتصاديًا للدولة عبر المساهمة في الصادرات، وإيجاد فرص العمل، والمشاركة في مشاريع التنمية الوطنية، ما جعلها أحد أركان الصمود الاقتصادي في فترات الأزمات.
كما اتسمت المنظومة بانفتاحها الإقليمي والدولي، عبر مشاركات فاعلة في المعارض والمؤتمرات الدفاعية، والتعاون مع دول الجوار والأشقاء في مجالات تبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا الدفاعية والمدنية.
منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م، برز دور منظومة الصناعات الدفاعية بوضوح،حيث كان لها القدح المعلّى في مواجهة العدو و داعميه و اسناد الجيش و الدولة مما ادى لتفويت الفرصة على المتآمرين و كسر شوكتهم و تشتيت شملهم .
فعلى الرغم من الاستهداف المباشر الذي تعرضت له بنيتها ومصانعها، استطاعت أن تحافظ على تماسكها، وأن تلعب دورًا محوريًا في توفير الاحتياجات القتالية واللوجستية للقوات المسلحة، من الأسلحة والذخائر إلى الأنظمة والمعدات، ما ساهم في تعزيز قدرة الجيش على الصمود والمناورة وتحقيق الانتصارات استنادًا الى سلاسل إمداد و اسناد مدروسة و منتظمة و فاعلة.
كما لم تغب عن الساحة المدنية، إذ أسهمت في إسناد الدولة اقتصاديًا وتنمويًا خلال الحرب، مما ساعد على منع الانهيار الكامل للبنية الإنتاجية الوطنية مع تماسك كافة مرافق الدولة و منظومات الخدمة.
لم يكن هذا البناء وليد الصدفة، بل ثمرة رؤية استراتيجية وجهود قيادية متتابعة، ورغم أن طابع المقال ليس توثيقًا بحتًا، لكن من الضروري أن نركز على المدراء و القادة الذين تعاقبوا على قيادة هيئة التصنيع الحربي(منظومة الصناعات الدفاعية) و هنا نذكر:
المهندس عماد حسين والشهيد المهندس جمال زمقان الذي قدم ملحمة من البطولة و هو يواجه فصيلة من متمردي مليشيا الدعم السريع حتى استشهد بفدائية نادرة، وزملاؤهما في البدايات؛ و هؤلاء كانت لهم “ريادة التأسيس وبذل البدايات”.
الفريق أول مهندس محمد الحسن عبدالله ورفاقه: و هؤلاء هم من قادوا “مرحلة و مسيرة الانتقال والتوسع النوعي و الكمي والتطور التقني والتكنولوجي” وتميزوا بذلك.
الفريق مهندس دفع الله خميس:رغم قصر فترة توليه قيادة المؤسسة، الا انه قاد المؤسسة في ظل تجاذبات و اضطرابات سياسية، ولا ينكر احد دوره الكبير وبصمته المميزة في مسيرة الهيئة.
الفريق أول ميرغني إدريس: قاد المنظومة في الفترة التي تلت سقوط نظام الانقاذ، وهي مرحلة اتسمت بعدم الاستقرار، وبالمتغيرات السياسية الحادة والتحديات الأمنية والاقتصادية الكبيرة و لم تنته الحقبة بالحرب و لا تزال تواجه من المهددات و التحديات عظيمها و أخطرها، لكنه ظل و لا يزال واركان حربه يديرون دفتها باتقان و يشرفون على دورها المفصلي في دعم المعركة وكسب الحرب و تثبيت اركان الدولة، فنالوا فضل “الحفاظ على الدولة والمؤسسة و شرف اسناد القتال” بتميز يحسدون عليه.
هؤلاء القادة وآلاف المهندسين والفنيين والجنود المجهولين من منسوبي المنظومة، هذه المؤسسة الفتية؛ جسّدوا إرادة وطنية حقيقية، فصنعوا منظومة أصبحت مفخرة للسودانيين، ومحل إعجاب واحترام إقليمي ودولي، كما ظلوا وسامًا على صدر هذا الوطن و قلادة في جيد الشعب السوداني الأبي.
في عام 2017م، أُجيز القانون الجديد الذي نقل الهيئة إلى مرحلة جديدة باسم «منظومة الصناعات الدفاعية»، لتواكب التوسع الكبير في الأدوار الدفاعية والتنموية، ولتكون أكثر قدرة على مواجهة المهددات الاستراتيجية وتعزيز مكانة السودان في محيطه الإقليمي.
كما أولت المنظومة اهتمامًا كبيرًا بالمسؤولية الاجتماعية، فأسهمت في مشروعات المجتمع، وكان من أبرزها برنامج العودة الطوعية للنازحين، فضلًا عن مشاركتها الحالية في مبادرات الإعمار وإعادة البناء في مختلف الولايات.
لقد أثبتت منظومة الصناعات الدفاعية في السودان أنها أكثر من مجرد مؤسسة صناعية، فهي تعبير حي عن سيادة وطنية، ورؤية استراتيجية، وعمقٍ حضاري.
ففي زمن الحرب، كانت درع الوطن وسنده، وفي زمن السلم كانت رافعةً للتنمية والتقدم.
إن الحفاظ على هذه المنظومة وتطويرها ليس خيارًا تكتيكيًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان أمن السودان واستقراره ونهوضه.
ولعل أعظم ما يمكن أن يُقال؛ إن هذه المنظومة لم تُبنَ على الحديد والنار فقط، بل على الإيمان بقدرة السودانيين على أن يصنعوا مستقبلهم بأيديهم… فكانت فخر السودان حربًا وسِلمًا.
الثلاثاء 22 أكتوبر 2025م