الرأي

ملحمة النصر على عتبات القصر، دلالات و ابعاد

د. اسامة محمد عبدالرحيم

لم يكن غالب اهل السودان متفاجئاً، و قوات الدعم السريع المتمردة تهاجم مواقع الجيش المختلفة و مقراته في العاصمة الخرطوم و عدد كبير من الولايات صبيحة يوم السبت 15 ابريل من العام 2023م، حينها كان هذا اليوم يطابق يوم 24 رمضان من العام 1444 الهجري.حينها كان معظم السودانيين قد بدأوا في برامج روحية يقابلون بها العشرة الأواخر من رمضان ذلك العام.

يومها شهدت الخرطوم، من ضمن ما شهدت من عمليات قتال، احتلال قوات المليشيا المتمردة للقصر الجمهوري بليلٍ مشؤومٍ غدراً برفقاء السلاح من الجيش و القوات الامنية المنوط بها حماية هذا الموقع الرمزي العريق و بسطاً للأمن و السلام في بقاع البلاد المختلفة.
و لعله من غرائب اقدار الله و حكمته، ان يتمكن الجيش السوداني و ملحوقاته المختلفة من قوات و مستنفرين من استعادة هذا الموقع العظيم (القصر الجمهوري) بعد حوالي حولين كاملين في ذات ابرك الايام و أنفحها بالمغفرة و الرحمة و البركات و في صباح يوم الجمعة المبارك من افضل اشهر الله و ايامه رمضان الكريم الحادي و العشرين من رمضان 1446 هجريةالموافق 21 مارس 2025م.

إن (القصر الجمهوري )، و الذي كان يستهدفه الهالك بجيشه الجرار و جنده الكُثُر و رتله الممتد من المتحركات و السلاح المتكاثف عساه يعتلي سدته حاكماً في انقلابه المشؤوم و المتحور و المتنامي حرباً عضوداً اورثت البلاد خراب العيش و الحياة، هاهو الجيش السوداني العظيم يضم جميع أبنائه من المقاتلين بالاصالة و بالاضافة من قوات المستنفرين و مشتركة العهود و الاتفاق بين جناحيه و جنبيه ، فيدخلون جميعا ذات (القصر) أعزةً طاردين و مقتِّلين و منكِلين بالمعتدي الغشيم الذي ضاقت به الارض بما رحبت و سدت عليه المنافذ و الافاق، فارتحل اوباشه اما رأسياً الى السماء او افقياً ينشدون السلامة و الافلات في كل شارعٍ و ركنٍ بعيدٍ كمن يتخبطه المس من الجن.

ان العمليات القتالية المعقدة التي قام بها الجيش في محيط القصر و وسط الخرطوم، لم تكن عمليات سهلة و لم تكن نزهة، و انما كانت نتاج فكرٍ و تخطيطٍ عسكريٍ سليمٍ، وقف خلفه رجال و قادة و مهر دربه بالأنفس و الدماء و العرق جنود لن يتخطاهم التأريخ ، بذل كل منهم جهده و جهاده حتى اصبح النصر واقعاً ملموساً اضاف لجيش السودان و جنديه سفراً جديداً من اسفار الانجاز تحت باب التضحية و الفداء.

و لعلي اختلف مع من يقول ان (القصر) كموقع ليس له اي اهمية عسكرية، فقط، لان العلم الحديث يؤكد تداخل العوامل العسكرية و السياسية و صعوبة فصلها في المعركة الحديثة و بالتالي تمتد العوامل متقاطعة متشابكة نفسياً و معنوياً، اجتماعياً و اقتصادياً تحت مظلة اهداف سياسيةٍ و عسكريةٍ تمضي اليها اي معركة. و لذلك و كأي ملحمة تأريخية كان هناك دلالات و ابعاد لهذا النصر العظيم.

الدلالات السياسية:
و ابرز ما يمكن رصده في هذه الدلالات السياسية

  • • ان الجيش قد نفذ فعلياً و قهراً و غصباً، جزءاً من بنود اعلان جدة و الذي يقضي بضرورة و التزام خروج قوات المليشيا المتمردة من الاعيان المدنية، و يبقى من نافلة القول الحديث عن ان القصر الجمهوري و الذي كان محتلاً من قبل العدو هو عين من الاعيان المدنية ذات القيمة النسبية العالية.
  • • هزيمة كل الداعمين المحليين و الاقلييمين و الدوليين و الذين خاب فرس رهانهم على بغلٍ معطوبٍ اعرج، كسيح الاطراف منزوع الاخلاق معدوم الضمير، لم يبلغ بهم و لهم نهايات السباق فاختلطت عليه الغايات و أختلفت عنده الأجندة بسبب ضعف البصر و اضطراب البصيرة.
  • • انهيار مشروع الرهان علي دولة 56 باستعادة القصر و الذي كانت اكبر رمزية تاريخية سياسية له اعلان الاستقلال و رفع علم البلاد في صبيحة يناير 1956م.
  • • تحرير و استعادة منصة و رمزية الحكم و السلطان و الدولة لحكومة السودان.
  • • إخراس ألسن من كان يزايد سياسياً على أن اي تفاوض داخل السودان يجب ان يُحتضن بالقصر الجمهوري في تلميحاتٍ خبيثةٍ تؤشر من طرفٍ خفيٍ لإستحالة استعادة القصر الرئاسي و تحريره.
  • • ومن أكبر الدلالات السياسية، هذا الاحتشاد الشعبي الكثيف وراء الجيش و قيادته و ارسال رسالة قوية معبرة ان اكبر حاضنة اجتماعية في السودان هو هذا الجيش رمز العز و السيادة و تاج المجد و الفخار.
  • • العودة التأريخية الثالثة للقصر لاحضان الدولة من بعد احتلال او اختطاف ، حيث كانت العودة الاولى في العام 1885م بعد انتصار الثورة المهدية و تحرير الخرطوم و مقتل الحاكم العام انذاك، و كانت العودة الثانية في يناير من العام 1956م و اعلان الاستقلال و خروج المستعمر و رفع العلم السودان، لتكون عملية استعادة القصر الجمهوري في 21 مارس 2024م من بين ايادي القوات المتمردة و اقدامه على يد كواسر الجيش السوداني وملحوقيه حدثا تأريخياً عظيماً، و علامة فارقة في مسيرة البلاد.

الدلالات العسكرية:

ان ابرز الدلالات العسكرية لملحمة استعادة القصر الجمهوري، تتمثل في الاتي:

  • • تاكيد الجيش على قدرته في الاستمرار في استعادة كثير من المواقع الحيوية و المناطق الجغرافية وفق تخطيطٍ محكمٍ و رداً عملياً على من كانوا يشككون في ذلك و يتهمون الجيش بالعجز عن استعادة اي موقع.
  • • تمكن الجيش من تخفيف الضغط على المواقع الحيوية و مقرات القيادة مما يجعل ما تبقي من معركة الخرطوم هو ملاحقات و تمشيط و ازالة جيوب و بؤر تجمعات و تواجد المتمردين مما يجعل من عمليات الخرطوم عمليات امنية اكثر من كونها عمليات عسكرية، كذلك فانه يجعل الانتقال و التركيز على جبهة و محاور القتال في غرب البلاد و التفرغ لها أقل صعوبة و بالتالي اكثر سهولة خاصة النجاح في فك حصار الفاشر و الذي يمكن القول انه استراتيجياً يبدا من استعادة السيطرة على كامل الخرطوم و تحريرها من دنس العدوان و المعتدين.
  • • ان عمليات ملحمة القصر، اكسبت الجيش السودان مهارات قتالية و خبرات ميدانية حقيقية و فعلية لم تتوفر لكثير من القوات و الجيوش في فنون تكتيكات و استراتيجات ما يعرف ب (الحروب الخاصة)، و تحديداً القتال وسط الابنية و الشوارع و في المناطق الضيقة (حرب المدن) ، و لعل هذا الامر سوف يورث السودان جيشاً اكثر قوة و افضل منعة. و من مظاهر هذا الجانب يستحسن القول بالاتي:
    لقد قام الجيش بوصل ما يجب وصله من قواته (التحام قواته) و قطع ما يجب قطعه من قوات العدو، و ابدع كذلك في عمليات انهاك قوات العدو و استنزافه ثم محاصرته و عزله و تطويقه، ثم عمد الى قطع خطوط مواصلات واتصلات العدو متعمداً تجفيف منابع امداده بالقوات او السلاح او المؤن و الغذاء في مناورات و حركة قتالية فريدة و بديعة اتت اكلها بالنصر المبين و هزيمة العدو و انكساره. ما قام به الجيش لا يختلف عن اي عملية جراحية معقدة انتهت بتسليم المريض امره للجراح يفعل به ما يشاء، دروسا غالية و ثمينة تظل ارثا للباحثين في العلوم العسكرية و مقتفي اثرها. كذلك ان دخول القصر من قبل قوات الجيش كسرا لشوكة العدو و جبرا يعتبر بمثابة اعلان رسمي لانتهاء فرية و اسطورة ما يعرف بقوات النخبة للدعم السريع التي لا تقهر و لا تكسر، الجيش يعلن نفسه سيد المعركة و سلطانها و يجعل ما تبقى من قوات المليشيا هي تحشيد و تجميع لمقاتلين من المتفلتين و اصحاب السوابق في الاجرام و فاقدي التدريب و التاهيل .

دلالات اخرى:
و من دلالات دخول الجيش بشكل عام، يجدر بنا ان نثبت الاتي:

  • • لقد استعادت الخرطوم حيويتها و غدا تستعيد كامل عافيتها باستعادة مسارات حركتها الرئيسية و هي تربط عبر اعصابها اعضاء الجيش الحيوية المدرعات، القيادة العامة بالخرطوم و بالتالي وسط الخرطوم بجنوبها مرورا الي بحري سلاح الاشارة، قاعدة حطاب،المهندسين العيلفون، الكدرو، المظلات شمبات، ثم وصلا الي امدرمان السلاح الطبي و المهندسين، منطقتي كرري و وادي سيدنا العسكريتين و هو ما يعني ضمناً صحة الأعضاء الحيوية لجسم الجيش لتؤدي بسلاسة و سلامة وظائفها الطبيعية الحيوية و عبر اعصاب متصلة و سليمة و اوردة و شرايين تدب من خلالها الحياة.
  • • انسانياً، تلاحظ ان جنود الجيش و مقاتليه و ملحوقيه من سائر القوات، كانوا اكثر وعياً بقواعد الاشتباك و قوانين الحرب الدولية في جوانبها الانسانية و هم يحسنون التعامل مع الاسرى و الجرحى و المستسلمين و هذا ما اكدته كثير من الشواهد و دعمته الشهادات الموثقة التي تثبت صحيح عقيدة القتال عندهم و المرتكزة على حسن الاعراف الاجتماعية وسماحة الاخلاق و قويم الاعتقاد الديني .
  • • و من الشواهد كذلك، نجاح الجيش في تنفيذ خطته و احكامها بضرب حصار بدوائر محسوبة، ظلت تضيق يوماً بعد يوم و ساعةً بعد ساعة حتى تم الاطباق على العدو و اقتحام القصر في المرحلة الاخيرة و هو امر وثقته تصريحات و شهادات عدد من الاسرى تفيد بانهم كانوا يعانون من عدم وصول الماء و الطعام لعدة ايام و كذلك الذخائر، و تلاحظ كذلك نجاح الجيش في خنق و حصار العدو و منع كل محاولات الفزع و فك الخناق على القوات المتمردة في سط الخرطوم و محيط القصر.

ختاما :

تظل الحقيقة ان القصر الجمهوري الذي تمكن الجيش من تحريره و استعادته بالامس، هو ذات القصر الذي انتهت عنده اوهام و احلام غردون و غيره من المحتلين المعتدين، و هاهو تنتهي عنده اوهام الطغاة الجدد و من سلك مسلكهم و من سار على دربهم في دروب القهر و الطغيان الي يوم الدين. و تظل المفارقة الحقة تثبت ان من يدخله محررا و فاتحا مستعيدا للحقوق مدافعا عن الاوطان، ليس كمن يدخله غادرا طامعا في كرسي سلطته و مجالس حكمه، هذا يسجل في صفحات التاريخ مزينا باوسمة المجد و الخلود و ذاك يركله الشعب الى مذبلته مشيعا باللعنات و سيئ الدعوات.

اترك رد

error: Content is protected !!