بحكم الصحافة وبعض الاهتمامات الأخرى لم أتوقف إطلاقا من التواصل مع المكاتب الكبرى ومواقع اتخاذ القرار في القصر أو مجلس الوزراء أو الوزارات المهمة، حتى مع أهل قحت الغلاظ الشداد، وقد يبدأ الأمر بـ (الشجار) و النقد وردود الأفعال خاصة مع الوزراء (الناشطين) أومسئولي مجلس الوزراء من أصدقائنا الذين تغيروا علينا (وما تزال لدينا معهم علاقة يشوبها شيء من الإحترام!) وغالبا ما ينتهي -بعد هدوء الأنفاس- إلى كلام على شاكلة “لازم نشتغل من أجل البلد كلنا” و “السودان يسع الجميع” ونحو ذلك من النفاق السياسي في الجلسات الخاصة وفي المناسبات الاجتماعية.
أذكر مرة في ترانزيت في مطار، تغدينا وصلينا سويا، وتناوبنا في حراسة الحقائب، وقطعنا في (كل الأطراف) عادي جدا، لأننا سودانيين.
الغرض في التواصل من طرفهم قطعا ليس توظيفنا، ومن طرفنا ليس “الاستوظاف” فالحمد لله لست خالي عمل ولا سفر، ولكن رغبتي في المساعدة لم تفارقني إطلاقا، وبالذات في القضايا التي أؤمن بها وأراها “عابرة للإنظمة” مثل التحرير الإقتصادي وملف العلاقات الأمريكية السودانية، ببساطة لأن الطرف الخارجي في هذه العلاقة لم يعبأ كثيرا بالتغيير ولديه خطط مستقرة ومحكمة مع استمرار التقلبات الداخلية التي لا ينشغل بها كثيرا كما يعلن!
من طرف القصر والوزراء، يكون القصد غالبا “التشطيبات” و وليس “الإستشارات” فيكون قد استقر الأمر تماما أن يكون مدير تلك المؤسسة فلان، والنقاش ليس بدافع مشاورة وإن أخذ هذا الطابع الوهمي عن أهمية رأينا، الدافع هو التأكد من القدرة على التعامل والتفاعل مع هذا الشخص أو ذاك وماهي نقاط ضعفه وقوته وذلك للإستفادة القصوى من المسئولين وكيفية تجنب “كفاويهم”. الآن الحمد لله الوضع أفضل في هذا الجانب بعودة المسئولين والسفراء الوطنيين المهنيين (في الغالب وليس الجميع).
لهذه الأسباب لدي خبرة في تصنيف الشخصيات الثانية والثانوية والتنفيذية في مكاتب الكبار و”الكبار جدا”!
يوجد ثلاثة أصناف من الشخصيات المساعدة لصناع القرار، وهي “ضبوب أو سحالي أو حربويات”، في مجلس الوزراء تكثر الضبوب والحربويات وتقل السحالي، وفي القصر توجد كل الأصناف مع وفرة في السحالي.
لكن ضبوب القصر أقوى وأكثر إخافة، لم أرى مثلها إلا في شوراع نيامي، وهي مدينة تشبه الأبيض تماما، في الواقع هي نصف الأبيض أو أقل مع وجود فندقين ضخمين ومطار كبير بنته شركة تركية مؤخرا، ومطعم لبناني تختلف فيه أسعار الأطعمة بين الفناء والصالة العادية، و”الصالة الخاصة”.
وللغرابة قرأت مؤخرا أن منطقة حوض النيجر كانت في التاريخ الحجري القديم فيها ديناصورات ضخمة من نوع “نيجروصور” وقد أخذ اسم النيجر، ربما ضبوب نيامي ذات القوائم من بقايهم.
المهم، الضبوب هم الموظفون الذين يجيدون الإلتصاق بجدران المكاتب الكبرى مع المسئولين لمدة سنين، تجدهم في أوضاع ثابتة، المسئول غاضب أو فرحان، لا تعابير على وجههم، يلتصقون على الحائط الى اعلى، حتى ينتهي الأمر.
وهنالك نوع من الضبوب عندنا في الدامر اسمه “المهندس” لأنه يقف على زاوية الحائط وينظر مرة لجانب ومرة للآخر كأنه يأخذ في المقاس.
هم لا يوجد لديهم أي انتماء أو ولاء، ولا يتلونون أصلا، لا يحتاجون للتلون، مهارتهم في الإلتصاق القوي بالمسئول والمكتب عند هبوب الريح أو حتى حدوث زلزال، يتطاير الجميع وهم ثابتون في الحائط.
الحربويات (خفيفو الحركة والظل)، كانوا إسلاميين مع الإسلاميين، وتحولوا إلى علمانيين مع العلمانيين، وعندما تجلس في المكتب منفردا تنتظر مقابلة المسئول تجدهم يأخذون لونك السياسي في دقيقة، إذا جاء ضيوف من قحت، وزاد عددهم، يتغير اللون في لحظة ويتعالى النفس الثوري والحديث عن الشهداء وفساد الكيزان، إذا جاء وفد من الحركات المسلحة، يتغير النقاش إلى حبوبته الفوراوية أو خالة زوجته الزغاوية، ولو عاد الإسلاميون، ستخرج الحربويات صورها أيام الدفاع الشعبي وربما في جلسة امامها قدح كبير فيه تلك الغزالة المشوية ذات القصة الشهيرة.
واخيرا السحلية، وهي تختلف من الضب والحربوية، طبعا هي كائن ممدوح في السودان، وشكلها واضح وانسيابي، والأساطير المحلية تقول أن لديها “مفتاح الجنة” ربما السبب أنها غير مضرة وأن كبارنا لا يريدوننا أن نخاف منها.
لكن “السحلية الإسلامية” مسكينة لأنها تعيش في ذات الشقوق وبين الأشجار مع الضبوب والحربويات فهي ملزمة بمعايشتهم، ومساكنتهم، والعمل بروح الفريق معهم، والاختفاء بين الضبوب والحربويات أحيانا، وإلا هاجمتها ثعابين قحت بسبب الانتماء وشكلها المميز.
السحلية هي الموظف صاحب الإنتماء الوطني وربما الإسلامي القاطع، ولم يدعي غير ذلك أبدا، ولم يتلون، وظل يؤدي في واجبه وينظم الزيارات لعملاء السفارات والجواسيس بإخلاص دون إعاقة لتواصلهم مع الكبار، ويوصل لهم التحايا و”الهدايا” باحترام ومهنية مع ان قلبه يلعنهم، كما جاء في الحديث “إنا نبش في وجوه أقوام وقلوبنا تعلنهم” وهو حديث حسن لأنه جاء زيادة للمتن الصحيح في حديث عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقالت له: يا رسول الله، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟ فقال: (إن شر الناس منزلة عند الله من ودعه الناس اتقاء فحشه) رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث هو أقوى أدلة الدبلوماسية وهو ليس نفاقا ولكنه مداراة للمصلحة العامة، واعتقد أن أكثر من يأخذ به هو الفريق ياسر العطا، لكنه يبالغ قليلا بالمدح والتطبيل لمن قال له (جلوسي معك يخصم من رصيدي).
المهم، عودة لسكان القصر العالي، الضبوب ترى أنه من فضائلها أنها غير منتمية أصلا، وتفخر بذلك في المجلس أمامك عشرين مرة، وتذكر جليسها المنتمي أن “غير المنتمي” أفضل من “المنتمي” ولذلك كانت الضبوب تعتقد أن تقوم الدولة كلها على اللانتماء والخواء الفكري تماما لأن هذا المعيار يضمن لها الإلتصاق بجدران القصر مع المسئولين أو التصدير منه للخارج لمهمة أفضل، وحجز أي منافس محتمل بسبب الإنتماء يمينا أو يسارا.
الحربويات انتشارها في مجلس الوزراء والوزارات كثير ومخيف، ولأن العمل قليل في بعض الوزرات، كان عاديا جدا بالنسبة لي ان ألتقي أي مسئول كبير تحت شجرة، لاحتساء كوب قهوة وليستفسر (بالمجان) عن أصدقائنا من الصحفيين والسياسيين في الدولة التي سيسافر لها الوزير، وطبعا هو يسرف في التطبيل والدجل ولا يدري لماذا أنظر للشجرة فوقه، أنا أتوقع من كثرة تلونه وحربائيته أن يقفز للفرع مثل أي حربوية ويأخذ لونها.
كان لا بد لنا أن نأخذ بحديث عروة بن الزبير ولكن ليس لدرجة ياسر العطا، مستوى “ص . إ” جائز وشرعي.
الضبوب في المكاتب والمباني الرسمية فقط، لأنها لا تعيش إلا في الشقوق والأنقاض الجافة وتكره الرطوبة، لانها “ناشفة وخاوية فكريا”، لكن يوجد زوار لمكاتب المسئولين بأعداد كبيرة من الحربويات بسبب الظروف و “الظروف”!
ستنتهي هذه المرحلة طبعا، وستتنهي إلى خير كبير باذن الله تعالى، فقد جرب السودانيون كل شيء.
لقد كانت النظرية الأولى أن الإنتماء لقحت أو اللاإنتماء أفضل، وأن الإنتماء للإسلاميين هو وحده المشكلة.
سقطت هذه النظرية، وصار بعدها لفترة وجيزة الإنتماء لقحت أو الإسلاميين كلاهما مرفوض وأن عدم الإنتماء بالكامل أفضل، أو الإنتماء (سنة ناعمة) إذا كانوا مضطرين للشخص.
حاليا تترسخ نظرية جديدة جميلة جدا تتعلق بالكفاءة والوطنية مع ركن الإنتماء إن وجد (قحاتي أو إسلامي) على جانب بعيد، والتأكد من عدم العمل أو التنسيق مع أي جهة، بل اعتقد أن دولة شقيقة واخرى بعيدة تفهمتا هذا الأمر وبدأتا في التواصل حسب هذه الوصفة.
وهكذا .. السودان بلد العجائب!