الرواية الأولى

نروي لتعرف

هوامش / د. كرار التهامي

مقاربات التجاني

الفرضية الكبرى بين صحة المقدمات وتخليط النتائج

السفير د. كرار التهامي




للتجاني عبد القادر روائع من المقالات والكتابات السياسية نادرة المثال فقليلون يقدرون على مجاراته في سلاسة عباراته وعمق تفكيره وفصاحة لهجته و وضوح حجته وصراحة برهانه ومقارباته الفكرية الجاذبة في مختلف شئون السياسة والمعرفة و علوم الاجتماع هذه الكتابة النظرية المعتقة بتجارب ميدانية شكلت جزءا حيويا من شخصيته ورسمت بعض ملامح من تاريخ السودان المعاصر الذي صنعته ثورات الطلاب وحملت بيارقه الحركة الطالبية في الستينات والسبعينات

▪️ فالرجل كان على راس اقوى اتحاد في تاريخ الحركة الطالبية السودانية
وهو الرئيس الذي اعتقلته السلطات واقتادته من سوح الجامعة إلى سجن (دبك )ليمضي اياما في ظلمته مصفدا مقيدا ثم يدبر هو ورفاقه اكثر عمليات الخروج من السجن جرأة حيث نفذوا في مطلع فجر ذلك اليوم المشهود خروجا سريا اقرب الى أفلام الخيال العلمي والإثارة تجاوزوا فيه الزنازين والأصفاد والعسس والأسوار العالية وساروا بالأقدام المسافات الطوال

▪️ في ذلك اليوم وبعد ان تسرب الخبر بخروج رئيس الاتحاد من السجن دون علم السلطات اصطفت الجامعة كلها في انتظاره كبطل أسطوري خرج كطائر الفينيق من رماد الأسر وحرر نفسه بأعجوبة رغم الحراسة المدججة والقيود وعيون الدرك
هذه التجارب النضالية ليست هي كل ما تنطوي عليه شخصية د التجاني عبد القادر الفذة فهو مزيج من القدرات الثقافية والسياسية والفكرية والأدبية الرفيعة تحتضنها نفس متواضعة و شخصية هادئة في مسوح من الحياء و اللطف والأدب الرفيع والأخلاق المهذبة والطباع المقومة الحميدة

▪️استدعيت هذه التجارب الشخصية لأعجابي كغيري من الاف الطلاب ذاك الزمان في جامعة الخرطوم بكاريزما القيادات الطلابية في اليمين وفي اليسار وكان التجاني عبّد القادر من المع رموز ذلك الجيل من المناضلين والمفكرين الذين ضاقت المواعين السياسية برؤيتهم النقدية وممانعتهم الفكرية فانعتقوا لاحقا من مراجعهم وجماعاتهم الفكريّة وتحرروا من الجبر التنظيمي و مارسوا نقدا موضوعيا حصيفا عاقلا ليس مثل الذين شرعوا في استثمار هذا الخصام بمجرد الانقطاع وباعوه للمنابر وقدموا انفسهم كماده إعلامية مكرورة و متداولة كثيرة الاستخدام رخيصة الثمن باهتة المعاني

▪️كما خرج التجاني من مدرسة الإسلاميين من أقصى اليمين خرج الخاتم عدلان من الحزب الشيوعي في أقصى اليسار بنفس الروح وانكب على نقد تجربته الماركسية وبيان عوارها الفكري وثقوبها التي اتسعت دون ان يزايد او يطفف الكيل في حق تجربته التي خرج من تنورها ناضجا والتي خلقته من تراب ثم من نطفة وجعلته رجلا ومفكرا والذي جمع بين الاثنين هو ترقية الخلاف لا تسليته و بيعه بالقطاعي في بازارات الصراعات السياسية والقنوات الفضائية الجاهزة لالتقاط الهاربين خفاف الوزن …..

▪️بهذه الروحية عكف التجاني في كتاباته منذ أربعين عام يقارب وينتقد ويحلل بذكاء حاد بيد ان مقاربته الأخيرة بعنوان(( هل حانت اللحظة الحاسمة ))الذي نشر قبل ايام لم يكن موفقا في استخلاص النتايج من قصص التاريخ واجتهد ان يركب مشهد تاريخي قديم على اطار معاصر لا يتسق ولا يتسع لخياله النقدي والتحليلي اهتم بالشكل في مقاله غير الموفق وتقطعت انفاسه كي يربط النهايات ويهندس فكرته الدرامية التي غاص في تعقيداتها وتورط داخلها لدرجة انه حاول ان يصل إلى النتيجة دون اتباع المنطق الذي يفضي إليها كالطالب الذي يعرف اجابة السؤال دون معرفة السببية او المنطق الحسابي الذي يقود اليها فيهرع اليها مكبا على وجهه ،، ولمحو اثر كلامه وتفنيد الفرضيات التي بنى عليها فرضية عودة المتمردين الفارين لاحتلال البلاد هذه بعض الملاحظات حوّل التخليط الذي انغمس فيه د تجاني بكل ذكائه ونجابته وقامته الفكرية العالية
اولا
▪️اعتبر التجاني ان عدم دخول بريطانيا لمساعدة حليفتها فرنسا جعلها ضحية لهجمات الألمان والاقتراب من حافة الهزيمة بينما يجمع مؤرخوا الحرب العالمية ان دخول الإنجليز في الحرب وقتها كان سيؤدي إلى احتلال بريطانيا وليس العكس هذا ما أدركه استراتيجيوا الحرب البريطانيون ،، والتجاني قصد
‏on good faith ان يلوح إلى مصر والسعودية بهذا المصير إذا لم يتدخلوا لصالح السودان وهذا خيال جامح لا يمت للواقع بصلة
▪️ فالفارق التاريخي والموضوعي يرسم حيثيات واحداثيات مختلفة فالسعودية ومصر ليسوا في مواجهة تهديد بحجم قدرات الجيش الألماني فهم يعرفون ان الحرب في السودان يمكن ان تقف بمجرد كف يد الممول والمحرض و فصل الكهرباء عن الجسم الغريب الذي يحارب الدولة السودانية
ثانيا
▪️رسم د التجاني مساراً غريب للمعركة كانه لم يكن يتابع مايجري في السودان في الثلاث أعوام الماضية فالتمرد رغم المدد ودعمه باكبر عملية ارتزاق Mercenary Transfer في تاريخ افريقيا لصالحه وشراء ذمم سبعة روساء أفارقة في سابقة ستدفع افريقيا ثمنها مستقبلا ومشاركة مئات الالاف من المشردين داخل العاصمة و عشرات الالاف من المجرمين والمحكومين من السجون فهو اي التمرد مع ذلك خرج من المدن مكسورا موليا الأدبار و لازال هشا عسكريا وقابل للكسر وجاهل بعلم الحروب ويفتقد للدوافع الأخلاقية في هذه الحرب عدا دوافع السرقة واللصوصية والاغتصاب والقتل على الهوية و العقد المتراكمة المحفورة في نفوس الغرباء و عرب الصحراء والطارئين على التاريخ وهذه دوافع سريعة العطب والنقصان لا تصمد امام تطاول زمن الصراع خاصة مع وجود جرثومة التناقضات الاثنية داخل صفوف التمرد التي ستعصف به من الداخل عندما تنفق غنائم الحرب ولا يعد هنالك رابط او فكرة مشتركة ذلك هو السبب الحقيقي في صرخات النخب من أنصار التمرد المطالبين بوقف الحرب (على غير هدىً) و الذين تحولوا الى حمائم سلام بعد ان كانوا غربان شؤم تتنبأ بالحرب وتلوح بها
ثالثا
▪️تحدث التجاني لكي تتناغم افتراضاته. مع سردية الحرب العالمية عن احتمال ان يسلم البرهان سلاح الجيش للمتمردين كما فعل الجنرال فيليب بيتان وهذه مقارنة متوحشة مفتعلة قصد منها التجاني إلى الوصول إلى الخلاصات واكمال الشكل الدرامي لكنه (عصر على نفسه شديد) كي يفرد جناحي هذا الخيال ويحلق فالبرهان ليس (فيليب بيتان) ولا يملك رفاهية ان يسلم سلاح الدولة لحميدتي فالجيش السوداني متماسك على عقيدة القتال حتى الرمق الأخير ويملك من القدرات وعلوم الحرب ما لا يملكه التمرد وهو الان يبسط سيطرته علي الدولة في متونها ومراكزها الحضرية والاقتصادية فهل كان جيش فيليب بيتان على هذه الشاكلة ؟ او ليس الأقرب للخيال عكس المنظور و وضع قائد الجيش في موقع ديغول حتى لو انتصر حميدتي خاصة ان السودان كله مقاومة إلا قليل من (البيتانيين)

اترك رد

error: Content is protected !!