الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

مسعد بولس… لسان حال الرباعية: تناغم الإعلام والميدان ومآلات التسوية والمفاوضات

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

في واحدة من تداعيات الحرب المشتعلة بالسودان منذ فجر 15 ابريل 2023 م، أطلّ المستشار الأميركي للشؤون الإفريقية، مسعد بولس، عبر شاشة الجزيرة مباشر مساء الإثنين 27 أكتوبر 2025م، ليقدم خطابًا مكثفًا يحمل بين سطوره ما هو أبعد من مجرد توصيف للوضع الميداني والإنساني في السودان.
فالرجل لم يتحدث بصفته الشخصية فحسب، بل مثّل بوضوح لسان حال الرباعية الدولية (الولايات المتحدة – السعودية – الإمارات – مصر)، وهي القوى الأكثر تأثيرًا في مسار الحرب والسلام في السودان.
لقد بدا المستشار الامريكي خطابه موزونًا مضبوطًا في عباراتٍ ولغةٍ إنسانية – سياسية – استراتيجية، ما يعكس حجم التوافق الدولي على رسم ملامح مرحلة تفاوضية جديدة تُدار على أنقاض الفاشر وبارا، وتُبنى على أشلاء ودماء السودانيين.

قراءة وتحليل لتصريحات مسعد بولس

أشار بولس إلى أن الوضع في الفاشر «مقلق جدًا»، محذرًا من تكرار سيناريو ليبيا في السودان، في إشارة واضحة إلى خشية واشنطن من تفكك الدولة وانزلاقها إلى فوضى ما بعد الحرب.
ولم يكتفِ بالتحذير الإنساني، بل كشف عن مبادرة أميركية لوقف إطلاق النار «قريبة جدًا»، محددًا أنها إنسانية في ظاهرها، وسياسية في جوهرها، إذ تُفتح من خلالها بوابة تفاوضية جديدة برعاية الرباعية.

خطاب بولس كان دقيقًا من حيث التوقيت والمضمون؛ حيث جاء بعد سقوط الفاشر واحتلال بارا، ليعكس تناغمًا بين التحركات الميدانية والدبلوماسية، وكأنما الميدان يُمهد لطاولة المفاوضات، فيما يُغلفها الإعلام بخطاب إنساني جذّاب.

أجندة الرباعية وأهدافها

1) الولايات المتحدة:

يبدو أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية المركزي هو منع الانهيار الكامل للدولة السودانية بما يهدد الاستقرار الإقليمي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي و الذي يمثل اهم شواغلها و اهتماماتها.

كذلك تسعى امريكا إلى تسوية تضمن عدم سيطرة طرف عسكري منفرد على الدولة، وتؤسس لسلطة انتقالية تُدار بإشراف دولي وإقليمي ناعم.

تعتبر السودان ساحة نفوذ جيواستراتيجي في مواجهة الصين وروسيا، ولا ترغب في تركه فراغًا.

2) مصر:

أولوياتها مرتبطة بالأمن القومي على حدودها الجنوبية، وبقاء الجيش السوداني كمؤسسة ضامنة لعدم تفكك الدولة.

تتحرك بحذر من تمدد نفوذ الإمارات وتركيا وإثيوبيا داخل السودان، وتسعى إلى مقعد مؤثر في الترتيبات النهائية.

3) السعودية:

تسعى لترسيخ دورها كقوة إقليمية ضامنة في ملفات البحر الأحمر، وتعتبر الاستقرار في السودان عنصرًا حاسمًا لمشروعاتها الاقتصادية في جدة ونيوم.

تدفع باتجاه تسوية تحفظ لها موقع الوسيط الموثوق.

4) الإمارات:

تنطلق من أجندة توسعية ناعمة تقوم على النفوذ عبر المليشيات والاقتصاد، لا سيما في دارفور، وكذلك للسيطرة والطمع في الذهب والموانئ و الزراعة و غيرها من الموارد.

رغم دعمها الواضح لمليشيا الدعم السريع، تسعى للتموضع كوسيط، وهو ما يُثير مشكلة جوهرية تتعلق بغياب الحياد.

الرباعية و الاسلاميون

رغم تباين أجندات دول الرباعية واختلاف أولوياتها ومصالحها الجيوسياسية في السودان، إلا أن هناك بندًا استراتيجيًا واحدًا تتفق عليه هذه الدول جميعًا دون تردد أو تحفظ، وهو إقصاء الإسلاميين وضمان عدم عودتهم إلى المشهد السياسي السوداني.
يُعد هذا الملف بمثابة “القاسم المشترك” الذي يجمع الرباعية، ويجعل من بقية ملفاتها الأخرى موضع تفاوض أو مرونة أو حتى تناقض. أما هذه النقطة تحديدًا، فهي بمثابة الركيزة الصلبة التي تنطلق منها مقارباتها السياسية والأمنية تجاه السودان، وتؤثر في طبيعة المبادرات المطروحة وشكل التسويات الممكنة.
إن هذا التركيز على “إزالة الإسلاميين” يعكس إدراكًا إقليميًا ودوليًا بأن المشهد السوداني بعد الحرب يجب أن يُعاد تشكيله على نحو يُقصي هذه القوى من معادلة السلطة، بغض النظر عن موقع كل دولة من بقية الملفات الأخرى.

البحر الأحمر في صميم الأجندة

لا يمكن قراءة مواقف الرباعية من السودان بمعزل عن الموقع الاستراتيجي للبحر الأحمر. فالولايات المتحدة تنظر إلى البحر الأحمر كممر حيوي للأمن البحري العالمي. والسعودية تعتبره ركيزة لمشروعها الاقتصادي – الجيوسياسي. أما مصر تربط أمنها القومي بأمن الممر الملاحي الاستراتيجي في الجنوب. لكن الإمارات تسعى لترسيخ نفوذها على الموانئ والسواحل كمحور ضمن مشروعها الإقليمي.

من هنا، فإن السودان ليس مجرد أزمة داخلية، بل عقدة جيوسياسية يتقاطع عندها أمن البحر الأحمر، وسباق النفوذ الإقليمي والدولي.

الإمارات طرف غير محايد

إن الدور الإماراتي في دعم مليشيا الدعم السريع لم يعد سرًا؛ بل أضحى موثقًا دوليًا. ولذلك، فإن محاولة تقديم أبوظبي كوسيط في عملية تفاوضية يُفقد أي تسوية مصداقيتها، ويطرح أسئلة عميقة حول نزاهة العملية السياسية نفسها.
لا يمكن لوسيط أن يكون في الوقت ذاته ممولًا ومسّلحًا لأحد أطراف النزاع.

موقف الجيش السوداني والقيادة السياسية

يمكن القول، أن الجيش السوداني، رغم الضربات في بارا و الفاشر، لا يزال ممسكًا بمفاتيح الدولة الأساسية، ويقف على أرضية صلبة في مواجهة مليشيا الدعم السريع. فموقفه من أي تفاوض يرتبط أساسًا بعدم شرعنة المليشيا، ورفض عودتها كقوة موازية أو شريك في السلطة. كذلك فإن القيادة السياسية المؤيدة للجيش ترفض أي تسوية تُفرض من الخارج دون ضمانات سيادية حقيقية.

موقف الشعب السوداني

إن الشعب السوداني الذي قدّم آلاف الشهداء و الضحايا و الملايين من النازحين والمشردين و الذي دفع و لا يزال يدفع ثمن الفاتورة الاكبر في هذه الحرب، يرفض رفضًا قاطعًا عودة مليشيا الدعم السريع أو قادة «تأسيس» للمشهد السياسي.
مجازر هذه المليشيا في الجنينة ونيالا والفاشر والخرطوم، و كذلك في مدن وقرى ولايات الجزيرة و سنار و كافة مناطق الوسط وولايات النيل الأبيض و الأزرق، وما رافقها من قتل ونهب واغتصاب وجرائم ضد الإنسانية، صنعت جدارًا من الرفض الشعبي العميق لا يمكن تجاوزه سياسيًا و يصعب ان يمحوه الزمن.

الفاشر وبارا، رسائل ميدانية في بريد التفاوض

إن سقوط الفاشر في يد المليشيا ليس مجرد حدث عسكري، بل هو ورقة ضغط تفاوضي بامتياز. كما إن احتلال بارا يمثل محاولة واضحة لـ «خلق توازن ميداني» قبل إطلاق مبادرة التفاوض، وهي تكتيكات مألوفة في الحروب تسبق جلسات التفاوض و الوصول للتسويات. ورغم ذلك، فإن هذه المكاسب العسكرية المؤقتة لا تعني تحولًا استراتيجيًا حاسمًا، بل تعتبر تصعيدًا تفاوضيًا محسوبًا.

الممارسات والانتهاكات الممنهجة

منذ بدء الحرب، ارتكبت مليشيا الدعم السريع جملة من الفظائع و الانتهاكات المستمرة شملت مجازر جماعية في دارفور والخرطوم، اغتصابات ممنهجة بحق النساء والفتيات، نهب واسع للممتلكات العامة والخاصة، تهجير قسري لمئات الآلاف، وخطاب عنصري حاقد يستهدف مكونات اجتماعية بعينها.

وفي الفاشر تحديدًا، سجلت تقارير منظمات محلية ودولية حالات قتل جماعي، وإعدامات ميدانية، واقتحام منازل ومنشآت طبية، ونهب واسع النطاق. ومثل هذه الانتهاكات تمثل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الاركان وهو ما أكدته تقارير محلية ودولية، من بينها تقارير صادرة عن منظمات حقوقية معترف بها.

هل كانت هناك حسابات دولية ميدانية؟

و يبرز هنا تساؤل مشروع مفاده، هل جرى غضّ الطرف أو القبول الضمني بتقدم المليشيا في الفاشر وبارا بهدف خلق توازن تفاوضي؟
الرباعية، وإن لم تصرح بذلك علنًا، إلا أن تزامن خطاب بولس مع سقوط المدينتين ليس محض صدفة، و لربما اشار بولس الى ذلك في مقابلته مع قناة الجزيرة بما يوحي إلى إنه جزء من هندسة المسرح التفاوضي.

السيناريوهات المتوقعة

جملة من السيناريوهات يمكن ان تشكل الواقع في القريب العاجل، منها و بشكل يبدو راجحًا :

1) هدنة ووقف إطلاق نار مرحلي، يتزامن معه غطاء لنشاط و عمل إنساني.

2) مفاوضات غير متكافئة تحاول الرباعية فرضها على الطرفين.

3) محاولة إدماج الدعم السريع سياسيًا في المرحلة الانتقالية المقبلة.

4) مقاومة شرسة من الجيش والشعب لأي تسوية تشرعن وجود المليشيا.

5) احتمال استمرار العمليات العسكرية في حال فشل التسوية أو انحيازها لطرف دون آخر.

الحلول الممكنة

في ظل هذه السيناريوهات المتوقعة، تبرز كذلك حلولًا يجب تبنيها و العمل وفق هداها، منها:

1) ربط أي تسوية بإنهاء وجود المليشيا المسلحة وتحويلها إلى مسار عدالة ومحاسبة.

2) دعم موقف الجيش في حفظ سيادة الدولة.

3) إشراك المجتمع المدني الحقيقي وليس واجهات الخارج.

4) ضمانات سيادية سودانية تمنع فرض أجندات خارجية.

5) إعادة تعريف دور الرباعية بما يضمن حياد الوساطة لا فرض الهيمنة.

ختامًا، فإن تصريحات مسعد بولس لم تكن خطابًا عابرًا في برنامج تلفزيوني؛ بل كانت إشارة واضحة إلى بداية مرحلة سياسية جديدة تُرسم فيها معالم التسوية المقبلة. لكن ما بين طموحات الرباعية و إرادة الشعب السوداني و موقف الجيش، تقف معادلة معقدة لن تحسمها المقابلات التلفزيونية و لا التغطيات الاعلامية ولا المبادرات وحدها، بل يحسمها وعي السودانيين وصمودهم وتمسكهم بسيادتهم الوطنية. فإذا كان الميدان هو من يرسم خطوط التفاوض، فإن إرادة الأمة هي التي تحدد حدود التسوية، ولأن السيادة لا تُمنح بل تُنتزع، فإن إرادة الشعب السوداني هي السطر الأخير في معادلة التسوية المقبلة.

الأربعاء 29 اكتوبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!