
غيب الموتُ الذي هو علينا حق معلوم، الأخ الصديق الفريق -أمن- محمد عثمان أحمد الفحل يوم السبت 15 مارس (آذار) 2025 في مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، إثر عِلة لم تمهله طويلاً، حيثُ كان مرابطاً على ثغرةٍ من الثغور في السودان، يحمي الأرض ويزرع الزرع طوال حرب مليشيا الجنجويد حتى أدركه الموت الذي يُدركنا أينما نكون، ولو كنا في بروجٍ مشيدةٍ، وذلكم تصديقاً لقول الله تعالى: “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا”.
لم يعد الموت يُفاجئ السودانيين، وإن كان يفجعهم هذه الأيام، مراراً وتكراراً، إذ ينسل من بينهم أخيار أطياب يعجزون عن تشييعهم، وشهود جنائزهم، اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا باتباع الجنائز في قوله: “خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز”، فسقطت عنا جبراً هذه الحقوق، ومن بينها اتباع الجنائز، بسبب أهوال الجنجويد وما أدراك ما الجنجويد! وفي غياهب هذه الظُلمات الجنجويدية، فرَّ أهل السودان من موطنهم -أصحاء ومرضى-، فمنهم من قضى نحبه -مرضاً وحسرةً- داخل السودان وخارجه! وانسل من بيننا أهلون وأصدقاء، ونحن بين مرابط في الديار، ومضطر على الفرار!
وقد انسل أخيراً من دنياواتنا الأخ الفريق -أمن- محمد عثمان أحمد الفحل الذي كان مرابطاً في مدينته كوستي طوال هذه الأيام الصعيبات، فمات في صمتٍ أليمٍ، وفي وحشة الفرد!
فالموتُ مُدركنا، مهما تعددت الأسباب، وتباينت المسببات، سواء فررنا من هول حرب الجنجويد، أو ظللنا مرابطين داخل السودان! تأكيداً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. وتصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل!
ولد الراحل محمد الفحل، والفحل هو لقب جده، في عام 1954. وتلقى مراحل تعليمه ما بين الدويم والحصاحيصا وكوستي، وهذا التنقل الدراسي، كان بحكم عمل والده في الشرطة. وتخرج في جامعة القاهرة فرع الخرطوم. وعمل في الإدارة العامة للسجون. وهاجر إلى الإمارات، حيثُ عمل فيها لأكثر من عقد من الزمان. ومن ثم عاد إلى السودان، والتحق بجهاز الأمن الخارجي. وصار عضواً في المجلس الوطني (البرلمان)، ممثلاً لجهاز الأمن الداخلي والخارجي. وأسس وكالة للسفر والسياحة (الوثبة) بعد تقاعده. واستقر به المقام في حي كافوري بالخرطوم بحري. وله ثلاثة أولاد وثلاث بنات (هاشم وهمام والحارث وأروى وإيمان وأبرار).
عرفتُ الراحل الفريق محمد عثمان الفحل عن طريق ثُلة “المسطبة” التي كان منسوبيها من المكرمين العسكري والمدني، يلتقون ثلاثة أيام في الأسبوع (الأحد والثلاثاء والخميس)، وهي بمثابة ملتقى مجتمعي تنداح فيه المؤانسات والمناقشات والمساجلات وبعض الطُرف والحكاوي. وكان الراحل الفحل كوكباً من كواكبها! فتوثقت علائقي به فيها، لا سيما وأني وجدته من المتابعين للصحافة والإعلام، ورغم مشاغله في مشاريعه الزراعية وغيرها، إلا أنه كان يُولي قضايا السياسة والثقافة اهتماماً ملحوظاً. ومما زاد علائقي توطيداً به، إننا كنا نترافق في الذهاب إلى “المسطبة” بسوح مطار الخرطوم، مع الأخوين الصديقين الصادق محمد حُسين وعثمان محمد عفيفي (الاستوبر). كان الراحل الفريق الفحل، محل اجماعٍ في حب الناس له واحترامهم. داخل “المسطبة” وخارجها. وكان يرحمه الله يتمتع بسجايا طيبة، وخصال حميدة، كان بحقٍ وحقيقةٍ، سمح الخصال، كثير الوصال، بسام المحيا في كل حينٍ وحالٍ، لا تُمل مجالسه، ولا تُضجر مؤانسته. عاش بيننا متواضعاً، خلوقاً سمحاً.
أخلص في هذه العُجالة الرثائية، إلى أن الراحل الفريق محمد عثمان أحمد الفحل كان طيب المعشر، وحسن المعاملة، وكان هميماً في تقديم العون لأهليه وأصدقائه ومعارفه، وسمحاً لطيفاً في تعامله مع الناس أجمعين. ولم يكن يتوان في خدمة من يطلب مساعدته حتى وإن لم يكن يعرفه!
وفي خاتمة هذه العُجالة الرثائية، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ الفريق محمد عثمان الفحل قبولاً طيباً حسناً، وينزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، ويدثره بدثار المغفرات، ويُكرم نزله، ويُوسع مدخله، ويُغسله بالماء والثلج والبرد، ويُنقه من خطاياه كما يُنقى الثوب الأبيض من الخطايا والدنس، ويُعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ويُلهم آله وذويه وأهليه جميعاً وأصدقاءه وزملاءه ومعارفه وعارفي فضله الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سَارِقُ دَقَّ شَخْصُهُ
يَصُولُ بِلاَ كَفَّ وَيَسْعَى بلا رِجْلِ.
ولنستذكر في هذا الصدد أيضاً، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين”.