
لم يكن الدكتور محمد طاهر أيلا رجلَ إدارة فحسب، بل كان رجلَ دولةٍ بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ووقارٍ ورسوخ. رجلٌ جمع بين العلم والتجربة، بين الرؤية والإنجاز، بين الفكرة والحياة. سار في دربٍ طويل من الخدمة العامة، يخطو بثقةٍ واتزان، حتى غدا أحد أبرز وجوه الإدارة والتنمية في السودان الحديث.
كان أيلا نموذجًا نادرًا لرجل الدولة المتكامل الذي جمع بين الهدوء والحزم، بين الحلم والعزيمة، وبين الصمت المنتج والكلمة المسؤولة. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان يعمل كثيرًا، كان يترك أثره في المشاريع انجازًا قبل أن يترك بصمته في الخطابات هتافًا. رجلٌ أدرك أن القيادة ليست موقعًا، بل رسالة، وأن الدولة لا تُدار بالضجيج بل بالتخطيط والانضباط والإيمان بالناس.
بدأ الرجل مسيرته في هيئة الموانئ البحرية، فكان مديرًا ناجحًا، حمل هم تطوير الميناء في صدره كما يحمل الملاحُ البوصلة. عرف الموانئ ومجتمعها، وقرأ البحر الأحمر بعيون المهندس والإداري، فكان قريبًا من الناس بقدر ما كان قريبًا من السفن و الارصفة.
ثم تقلّد حقيبة الطرق والجسور والمواصلات، فعبّد الطرق التي تربط الوطن، كما عبدّ جسور الثقة بين المركز والولايات. كان من القلة الذين جمعوا بين العلم الأكاديمي والخبرة الميدانية، فصارت قراراته ثمرة معرفة لا وليدة مزاج.
حين أصبح واليًا على ولاية البحر الأحمر، أطلق حقبة جديدة من التنمية المتوازنة و دشن عهدًا فريدًا من الانجاز. كانت بورتسودان في عهده مدينةً تنبض بالحياة، تتزيّن بالمهرجانات والمواسم السياحية، وتشمخ بمشروعات البنية التحتية، والتعليم، والصحة.
ابتكر فكرة مهرجانات السياحة والتسوق التي اصبحت نموذجًا و تقليدًا لحكام آخرين، فحوّل البحر الأحمر إلى وجهةٍ لكل السودانيين، وأثبت أن التنمية ليست مشروعات إسمنت وحديد، بل روحٌ تُبعث في المكان والإنسان.
سعى لتحقيق حلمٍ ظل يؤرق أجيالًا من أبناء الشرق؛ هو نقل مياه النيل إلى بورتسودان. خطا في ذلك خطواتٍ جادة، لولا أن صراعات المركز وتنازع القوى أوقفت المشروع في منتصف الطريق. لكنه ترك الفكرة حيّة، كما ترك الأمل ممتدًّا في العقول والقلوب.
حين انتقل إلى ولاية الجزيرة، أثبت أن النجاح ليس مرتبطًا بالجغرافيا، بل هو سمة في داخله. حمل معه روح البحر الأحمر وإصراره، وواصل نهجه في الإدارة القائمة على التخطيط والمبادرة. أثبت أن التنمية رؤيةٌ متصلة، لا صدفة ولا حظًا عابرًا.
وعندما ضاقت الدائرة على نظام الانقاذ في خواتيم أيامه، و بدأ النظام حينها مترنّحًا، استدعوه في لحظة عسيرة ليقود الحكومة الأخيرة في عهد الإنقاذ. جاء إلى المقعد لا طمعًا في سلطة، بل رغبةً في الإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. غير أن الوقت كان قد تأخر، والأحداث كانت أسرع من قدرته على التغيير و الأقدار امضى من أن يوقفها بشر. ومع ذلك، خرج كما دخل نظيف اليد، ناصع السيرة، راسخ الاحترام.
لم يكن الحشد الكبير الذي ودّعه صباح اليوم ببورتسودان و مقابرها الرئيسية، مصادفةً عابرة؛ بل كان تعبيرًا عن وفاءٍ شعبيٍّ نادر، وعن إدراكٍ بأن هذا الرجل قد خدم وطنه بصدقٍ وهدوءٍ ونزاهة. اجتمع الناس من مختلف المشارب والولايات، لا لأنهم مأمورون، بل لأنهم متأثرون وممتنّون.
يبقى محمد طاهر أيلا رمزًا في ذاكرة السودان؛ رمزًا للعمل والاتزان والإخلاص. وسيبقى في الوجدان كما جبال البحر الأحمر شامخة، صامتة، لكنها مفعمة بالحياة في أعماقها. وسيبقى في الذكرى كما البحر الذي أحبَّه عميقًا، مهيبًا، لا يُدرَك غوره ولا يُنكر عطاؤه.
لقد مضى الرجل، لكن أثره باقٍ في المدن والطرقات والموانئ و المجتمعات الصغيرة و المتسعة، العامة و الخاصة، وفي النفوس التي ألهمها أن النجاح عملٌ وصبرٌ وإيمان. مضى في هدوء البحر الذي عاش بقربه، وترك وراءه سيرةً بيضاء، ومثالًا نادرًا لرجلٍ خدم وطنه دون أن يرفع صوته، وترك إرثًا من العمل لا يُمحى.
سلامٌ عليك أيها الوالي الأمة و الفرد الدولة، كنت مثالًا للقومية و نبراسًا للوطنية ، يا من عشت كبيرًا ورحلت كبيرًا، وتركت سيرتك تمخر عباب يمّ ذاكرة السودان و السودانيين كما تمخر السفن بحرها الهادئ الممتد. رحمه الله رحمةً واسعة، وجعل أثره صدقةً جارية في وطنٍ ما زال يحتاج إلى أمثاله.
الثلاثاء 7 اكتوبر 2025م