يكاد يجمع المحللون العسكريون على أن الحرب التي تدور في السودان منذ 15 أبريل 2023 تقترب من نهايتها بدخولها منذ أسابيع قليلة طورها الثالث، وتحولها إلى حالة فوضوية، ربما كانت هي الحالة التي عناها قائد مليشيا الدعم السريع في آخر خطاب له حينما ألمح لها بالتحول إلى الخطة (ب).
فمحاولة الاستيلاء على السلطة التي قادتها “قوات الدعم السريع” قبل ما يزيد على العام ونصف العام، سرعان ما تحولت – بعد أن فشلت – إلى تمرد عسكري تولت كِبره تلك القوات تحت شعار “استعادة الديمقراطية” تارة، والقضاء على “دولة 56” تارة، ومحاربة “النظام السابق” ومنسوبيه تارة أخرى ، وكان هذا هو الطور الأول من الحرب، والذي استمر نحو عشرة أشهر، وقد حشدت له المليشيا و داعموها مرتزقةً من منطقة الساحل ومن بعض دول الجوار وكانت له أساليبه القتالية و دعايته الحربية وشعاراته السياسية وقواه “المدنية” التي دعمته !!
أكثر ما ميز الطور الأول من الحرب، هو الثقة اللامتناهية من المليشيا وداعميها المحليين والإقليميين أن الجيش السوداني لا محالة سينهار وأن “الدعم السريع” سيكسب الحرب ويبسط سيطرته على الدولة السودانية وأن على الجوار السوداني القريب والبعيد، وعلى المجتمع الإقليمي والدولي أن يتهيأوا للتعامل مع “الواقع الجديد”؛ ولا شك أن هذا الانطباع الذي أُريد له أن يسود، كان جزءاً من خطة الانقلاب الذي تحول إلى حرب، وكان مدعوماً بتخطيط إعلامي وحراك دبلوماسي مع الإمداد المستمر للمليشيا بأسلحة الحرب ومعداتها، مما هو معروف للكافة.
خاضت المليشيا وأنصارها المحليين، حرباً سياسية وإعلامية بجانب الأعمال العسكرية إتضح فيما بعد أنهم كانوا فيها أدوات محلية لقوىً إقليمية، وقبل أن يحول الحول على بداية التمرد، أدركت القوى الإقليمية التي خططت لفرض الإتفاق الإطاري، وأشعلت بسببه الحرب، والقوى الدولية التي تواطأت معها، و القوى السياسية المحلية التي تمّ توظيفها لصالح مشروع الهيمنة على السودان، أدركت جميعها أن مشروعها هذا قد فشل، وأنه لا أمل في هزيمة الجيش السوداني، فانتقلت بحربها إلى الطور الثاني، وهو الاستفادة من “زخم الانتصارات” التي حققتها مليشيا الدعم السريع باستيلائها على عدد من المدن في وسط السودان وفي ولايات دارفور، لفرض شروط تسوية تمكنها من المحافظة على ما تبقى من قوة مليشيا الدعم السريع وفرضه واقعاً في المعادلة السياسية والعسكرية في السودان، فكانت مفاوضات المنامة ومؤتمر باريس ومفاوضات جنيف. وكانت جولات “الروبوت” في عدد من الدول الأفريقية، وكانت محاولات استغلال منبر الإيغاد والاتحاد الأفريقي، لكن هذا كله لم يؤد إلى النتيجة المطلوبة ولم يقترب منها حتى.
السمة البارزة التي ميزت الطور الثاني من حرب المليشيا هو فقدانها نظام القيادة الميدانية الموحدة والسيطرة على القوات، فمن حيث أراد مخططو المليشيا ورعاتها إحداث “زخم ثوري” بتبني شعارات كذوبة، و بالتوسع في مهاجمة ولايات وسط السودان كالجزيرة وسنار، تكشَّف الوجه المليشياوي لتلك القوات، فأضحت أقرب إلى المنظمات الإجرامية والتشكيلات العصابية، كما في حالات تجار المخدرات، وأضحى كل زعيم عصابة أو قائد مليشيا يحاول بسط نفوذه من خلال عمليات النهب والسلب والقتل وانتهاك الحرمات في ما يسمى مناطق سيطرته، حتى أن بعض “زعماء العصابة” الصغار فقدوا حياتهم في إطار صراع النفوذ هذا.
والحقيقة أن الضربات الموجعة التي وجهتها القوات المسلحة والقوات المساندة لها والمستنفرون في عدد من مسارح العمليات وجبهات المواجهة، سواء في ولاية الخرطوم أو ولايات الوسط أو في مناطق من شمال دارفور على رأسها مدينة الفاشر، قلبت معادلة الحرب، وأعطت زمام المبادرة للقوات المسلحة و أعطت الدليل العملي على فشل الطور الثاني من الحرب و بدء الانهيار التدريجي لقوات المليشيا.
وهكذا فشل الطور الأول من الحرب، الذي كان يهدف إلى الاستيلاء على السلطة بانقلاب خاطف أو بانكسار القوات المسلحة، وفشل كذلك الطور الثاني الذي كان يهدف إلى إبقاء القوات المسلحة تحت الضغط وجرها إلى غرف التفاوض لفرض تسوية سياسية وعسكرية تضمن للمليشيا وداعميها المحليين مكانة في مستقبل البلاد، فانتقلت المليشيا ورعاتها وكفلاؤها، إلى الطور الثالث من الحرب، وهو الطور الذي نحن فيه الآن، وإن كان قد بدأ التمهيد له منذ عدة أشهر.
فمع يأس المليشيا ورعاتها من قبول القوات المسلحة الوقوع في شرك التفاوض، على النحو الذي كانوا يخططون له، انتقلوا إلى الطور الثالت من الحرب، فبدأوا محاولات مستميتة لتهيئة المسرح الدولي لفرض عقوبات وحظر طيران وأسلحة على الجيش السوداني، وذلك من خلال التركيز على الجانب الإنساني عن طريق تقارير المنظمات الأممية التي أخذت تتحدث عن “كارثة إنسانية على وشك الحدوث” جراء نقص الغذاء والدواء ومواد الإيواء، في عدد من المناطق في البلاد، فيما تتجاهل تلك التقارير، في نفس الوقت، الإشارة المباشرة إلى الطرف المتسبب في تلك المعاناة، وشيئاً فشيئاً بدأت تتزايد تقارير منظمات دولية عن أعداد السودانيين النازحين واللاجئين والمهددين بالموت جراء نقص الغذاء والدواء ومواد الإيواء مع عدم قدرة هذه المنظمات في الوصول إليهم، في تلميح إلى أن الحكومة السودانية تعرقل وصول العون الإنساني إلى مواطنيها !!
وكانت إحدى أبرز المحاولات في مجال “الهجوم الإنساني” المؤتمر الصحفي الذي عقدته اللجنة الأممية للتقصي في شأن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، للإفصاح عمّا جاء في تقريرها، حتى قبل أن تعرض التقرير على مجلس حقوق الإنسان الذي شكلها، حيث أعلنت أنها أوصت بضرورة التدخل الدولي لحماية المدنيين وبتوسيع ولاية المحكمة الجنائية الدولية لتشمل السودان كله، غير أن هذه المحاولة وئدت في مهدها بفضل يقظة مؤسسات الدولة السودانية !!
ومن مجلس حقوق الإنسان في جنيف، انتقلت الحملة إلى مجلس الأمن الدولي من خلال تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، وفي الأثناء حاولت الأطراف الداعمة للمليشيا استغلال الانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في ولاية الجزيرة لتعزيز منطقها في ضرورة “حماية المدنيين” بحجة أن الجيش عاجز عن حمايتهم، مع ملاحظة أن عدداً من المنظمات الدولية استيقظ ضميرها فجأة وسجلت إدانات واضحة وصريحة لسلوك المليشيا الإجرامي، مع إن هذه الجرائم، وإن بدرجات متفاوتة، ظلت تحدث منذ الشهور الأولى لاندلاع الحرب، مما يعزز فرضية أن صحوة الضمير المفاجئة هذه لا يبدو أنها بريئة !!
محاولات جرجرة “المجتمع الدولي” للتورط في وحل السودان ستستمر ما دامت قوى غربية تريد أن تبسط نفوذها على بلادنا عن طريق وكلائها في المنطقة، وما دامت تلك القوى الغربية تصر على محاولاتها الرامية إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني، سلماً أو حرباً، وتسليم قيادته لقوى منبوذة شعبياً ولا مؤهل لها سوى طاعة أمر أسيادها. ولا سبيل لمجابهة ذلك إلا بتجاوز الخلافات الصغيرة بين القوى السياسية وإعادة ترتيب الأولويات الوطنية بحيث تصبح وحدة الصف الداخلي حول القضايا الكلية على رأس تلك الأولويات.