مجزرة الفاشر: دلالات التصعيد بالقصف على المساجد والمسيّرات وانعكاساته الإنسانية!؟

مقدمة
على ما تعيشه من حصار خانق وضائقة إنسانية مأساوية لأكثر من عام ونصف، شهدت وتشهد مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، واحدة من أبشع الجرائم ضد المدنيين منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023. ففي صباح يوم أمس الجمعة، استهدفت طائرة مسيّرة مسجدًا مكتظًا بالمصلين أثناء صلاة الفجر، ما أسفر عن مقتل نحو 75 مدنيًا على الأقل وإصابة عشرات آخرين. جاء هذا الهجوم بعد سلسلة من القصف بالمسيرات استهدفت أحياءً سكنية ومخيمات للنازحين في محيط المدينة، لتتحول الفاشر من ملاذ للنازحين إلى ساحة مذبحة جماعية. هذه الجريمة تفتح الباب واسعًا أمام قراءة أبعاد التصعيد النوعي، وما يحمله من دلالات عسكرية وسياسية، وما يخلّفه من تداعيات تفاقم الأوضاع الإنسانية الكارثية، فضلًا عن انعكاساتها الإقليمية والدولية، في سياق حملات (التمرد وتأسيس ) لإسقاطها بعد أن يئست واستعصت عليهم عسكريا.
أولًا: الدلالات العسكرية والسياسية
1.استهداف الرمزية الدينية والاجتماعية
اختيار المسجد وفي وقت صلاة الفجر ليس مجرد مصادفة، بل رسالة مركبة. فهو يقصد عمق الرمزية الدينية والاجتماعية في دارفور، حيث يمثّل المسجد مركزًا للتجمع والتماسك الأهلي. قصفه يعني أن الحرب انتقلت إلى مستوى تدمير الرموز وضرب الهوية الجماعية للمجتمع المحلي.
2.انتقال تكتيكات الحرب إلى العقاب الجماعي
الهجوم يعكس لجوء قوات الدعم السريع المتمردة إلى سياسة العقاب الجماعي ضد سكان الفاشر، خاصة بعد أن واجهت مقاومة محلية في محيط المدينة. فالقصف على المصلين، ثم على الأحياء المدنية، يستهدف كسر إرادة المجتمعات وفرض التهجير القسري بالقوة.
3.استخدام المسيّرات: دعم خارجي واضح
الاعتماد على الطائرات المسيّرة في معارك الفاشر يثير تساؤلات عميقة حول مصادر التسليح والدعم الفني، ويقوّي صدقية التقارير المتعددة بتورط أطراف إقليمية في إمداد المليشيا بتكنولوجيا عسكرية متقدمة، ما يجعل الأزمة السودانية ذات طابع إقليمي معقّد.
ثانيًا: الأوضاع الإنسانية الكارثية
1.الفاشر مركز النزوح
الفاشر لطالما كانت مركزًا رئيسيًا لاستقبال النازحين الفارين من قرى دارفور ، وقد جري استهداف معسكري زمزم وابوشوك من قبل . فان استهدافها في هذا التوقيت يضاعف معاناة مئات الآلاف الذين يعيشون في مخيمات مكتظة، دون غذاء كافٍ أو رعاية طبية أو مياه نظيفة.
2.انهيار البنية الصحية
الهجوم خلف عشرات الجرحى، بينما المستشفيات تعاني أصلاً من نقص في الأدوية والكوادر. كثير من المصابين لم يجدوا عناية عاجلة، ما رفع أعداد الوفيات. هنا يظهر البعد المأساوي الإنساني: الحرب لم تكتفِ بالقتل، بل جعلت حتى النجاة معاناة إضافية بمنع الخروج الآمن.
3.تفاقم أزمة الغذاء والمياه
مع قطع الطرق وصعوبة وصول الإمدادات، يصبح القصف على الفاشر تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي والمائي. المنظمات الإنسانية، التي بالكاد كانت قادرة على التدخل، تجد نفسها أمام بيئة غير آمنة للعمل، ولكن بلا حيلة في ادانة التمرد.
ثالثًا: الانعكاسات الإقليمية والدولية
1.نحو توصيف جرائم حرب
استهداف مسجد مكتظ بالمدنيين قد يرقى قانونيًا إلى جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، ما يفتح الباب أمام مطالبات بتحقيقات دولية ومساءلة قانونية. وهو ما قد يضع الدعم السريع وتأسيس وداعميهم في مواجهة ضغوط غير مسبوقة.
2.ضغط على الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة
الهجوم يضع الاتحاد الأفريقي أمام اختبار صعب: هل يكتفي ببيانات الإدانة أم يذهب أبعد نحو فرض آليات مراقبة أو حماية المدنيين؟ كذلك الأمم المتحدة ستجد نفسها مطالبة بزيادة الضغط لتأمين ممرات إنسانية، وهي ووكالاتها على علم ومتابعة بالذي رفض تطبيق فحوى قرار وبياناتها الصادرة .
3.تداعيات على الإقليم
دارفور قريبة من الحدود مع تشاد وليبيا، وأي تصعيد في الفاشر قد يدفع بموجات نزوح جديدة ولجوء نحو الخارج. هذا يهدد الأمن الإقليمي ويضع ضغوطًا على الدول المجاورة، خصوصًا في ظل هشاشة أوضاعها الداخلية.
رابعًا: القراءة الرمزية والإنسانية
•قصف المسجد يوم الجمعة يضع الحرب في إطار تدنيس المقدسات، ما يضاعف أثرها على الرأي العام السوداني والإسلامي.
. التحول إلى حرب مسيّرات ضد الأحياء يرسخ صورة الحرب كصراع غير متكافئ، حيث تُستخدم أدوات متقدمة ضد سكان مدنيين بسطاء.
•المشهد العام يوحي بأن دارفور تواجه خطر تفكيك اجتماعي ممنهج، وابادة جماعية، حيث تتعرض الروابط الدينية والأهلية للتهشيم عبر العنف المباشر.
خامسًا: ما العمل؟
أمام هذه التطورات الخطيرة في مشهد دارفور من خلال ما يقع على الفاشر ، ثمة جملة من الخطوات العاجلة والضرورية تجاه المتمردين الذين يستهدفون ويتعدون باستمرار على المدنيين وينتهكون حرماتهم ويهدّدون أمن وسلام المجتمع حتى لا يفلتوا من المحاسبة. علينا ان نطالب بإطلاق تحقيق دولي مستقل لتوثيق الجرائم وتحديد المسؤوليات، وفرض حظر فوري على الدول التي تعمل على توريد الطائرات المسيّرة وكل أشكال التسليح إلى التمرد ، وفتح ممرات إنسانية محمية دوليًا لضمان إيصال الغذاء والدواء إلى الفاشر والمناطق المتضررة. والدعوة لتعزيز الضغط الدبلوماسي على الدول الإقليمية والراعية لقطع أي دعم عسكري غير مباشر، وتمكين المجتمع المدني ومنظمات النازحين من رفع صوتهم في المحافل الدولية لإبقاء القضية حية حتى تتحقق العدالة ويرجع الأمان لأهل السودان، ويصار الي فك الخناق عن مدينة الفاشر.
سادسًا: توجهات الدولة السودانية
في أعقاب هذه المجزرة، جاء بيان رئيس الوزراء ليعكس موقف الدولة الرسمي تجاه الهجمات. فقد أدان بشدة استهداف المصلين في مسجد الفاشر والقصف بالمسيرات على الأحياء المدنية، واعتبرها جرائم حرب مكتملة الأركان تهدد السلم والأمن في السودان والمنطقة. وأكد البيان أن الحكومة السودانية ستتوجه على وجه السرعة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وحشد الدعم لحماية المدنيين ووقف الاعتداءات.
كما شدّد رئيس الوزراء على أن السودان لن يقبل باستمرار هذه الجرائم بلا مساءلة، معلنًا عزمه على تصعيد الموقف دبلوماسيًا وقانونيًا عبر المسارات الدولية والإقليمية، مع التمسك بحق السودانيين في الأمن والسلامة والكرامة. هذا التوجه يعكس انتقال الموقف الرسمي من مجرد التنديد إلى المبادرة بفتح مسارات للمساءلة الدولية، بما يعزز الضغط على الأطراف المتورطة في رعاية ودعم التمرد عسكريا .
خاتمة
مجزرة الفاشر ليست حادثًا عابرًا في حرب
مدمّرة، بل محطة مفصلية تكشف الوجه القبيح والحقيقي للتمرد وممارساته التي ترقى إلى جرائم حرب في ظل انهيار المنظومة الإنسانية . لقد ظلّت المدينة صامدة لأكثر من عامٍ ونصف تحت الحصار الخانق، تواجه تداعيات إنسانية كارثية: انقطاع الإمدادات، انهيار الخدمات، وجوع يتهدد مئات الآلاف من النازحين. ومع ذلك، لم تفقد الفاشر إرادتها، وظلت عصية على الانكسار.
إن الانتهاكات الصارخة ضد المدنيين، من قصف المساجد إلى مصادرة الغذاء والدواء من مخازن الإغاثة التي تسيطر عليها المليشيا، تضع التمرد في العراء أمام أنظار العالم، لا سيما مع انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة على الأبواب. حيث تُعرض قضايا الشعوب المنكوبة. ويزداد الحرج الدولي حين تدرك المنظمة الأممية أن كل ما يدخل من طعام تُصادره المليشيا وتحرم الجائعين من لقمة العيش، بينما يتواصل القصف العشوائي على الأحياء السكنية ليحصد الأرواح والمنشآت.
رغم كل ذلك، تظل الفاشر رمزًا للصمود والإباء، تثبت يومًا بعد يوم أن إرادة الناس أقوى من الحصار، وأن المدينة مهما تعرضت للقصف والتجويع والقتل، فإنها باقية وعصية على السقوط. وهنا يكمن جوهر القضية: حماية الفاشر وأهلها ليست مسؤولية السودانيين وحدهم، بل واجب إنساني إقليمي عالمي، واختبار لمدى صدقية المجتمع الدولي في الانتصار لقيم العدالة وحماية المدنيين التي لطالما تمشدق بها وعجز عن تطبيقها.