
في لحظة تتقاطع فيها الأزمات الداخلية مع التحديات الإقليمية، يواجه السودان اختبارًا حاسمًا في قدرته على استعادة تماسكه الوطني، وسط مشهد سياسي وأمني بالغ التعقيد. لم يعد من الممكن فصل ما يجري في الداخل عن ما يُدار في الخارج، فكل خطوة تُتخذ على الأرض السودانية باتت ترتبط بشكل مباشر بموازين القوى الإقليمية، وبحسابات الأمن القومي في محيط مضطرب.
التحرك الأخير لرئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يعكس هذا الإدراك بوضوح. فقيادة المؤسسة العسكرية السودانية لم تكتف بإدارة الأزمة من داخل بورتسودان، بل انفتحت على محيطها الاستراتيجي، مدفوعةً برؤية وطنية ترى أن حماية الدولة لا تقتصر على صد التهديدات، بل تشمل أيضًا إعادة بناء مؤسساتها، وتوفير بيئة سياسية تسمح بانتقال مدني حقيقي.
وفي هذا السياق، جاءت الدعوة المصرية لعقد اجتماع موسّع برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، لتشكل نقطة ارتكاز في هذا التحول. الاجتماع، الذي ضم قيادات عسكرية سودانية وليبية، وعلى رأسهم الفريق البرهان والمشير خليفة حفتر، لم يكن مجرد لقاء تنسيقي، بل محطة استراتيجية لإعادة تعريف مفهوم السيادة في ظل التهديدات العابرة للحدود، ومحاولة لتشكيل جبهة إقليمية تتصدى لمحاولات تفكيك الدول الوطنية.
الملف الداخلي السوداني، الذي شهد إعلانًا عن تشكيل حكومة مدنية مستقلة، لم يكن معزولًا عن هذا الحراك. بل إن هذه الخطوة جاءت كاستجابة مباشرة لحاجة ملحة في الداخل، وكمؤشر على أن القيادة العسكرية لا تسعى إلى احتكار السلطة، بل إلى تأمين انتقال سياسي منضبط، يحفظ وحدة البلاد ويمنع الانزلاق نحو الفوضى. هذا التوجه، وإن كان لا يخلو من التحديات، يعكس نضجًا في التعامل مع الواقع، وحرصًا على بناء مؤسسات شرعية قادرة على إدارة الدولة بعيدًا عن الاستقطاب.
في المقابل، فإن التحرك المصري، الذي جاء في توقيت حساس، يؤكد أن القاهرة تنظر إلى أمن السودان وليبيا باعتباره جزءًا من أمنها القومي، وأن استقرار الجوار لا يتحقق إلا عبر التنسيق مع القيادات الوطنية الفاعلة. الرئيس السيسي شدد خلال اللقاء على أن السيادة لا تُصان بالشعارات، بل بالعمل المشترك، وبإرادة سياسية واعية تدرك أن أمن الجار هو امتداد مباشر لأمن الذات.
التحليل الإعلامي، كما عبّرت عنه الكاتبة د. أماني الطويل، اعتبر أن لقاءات العلمين تمثل نقطة تحول في التفاعل المصري مع الأزمتين السودانية والليبية، مشيرة إلى أن القاهرة تسعى لتطويق التفاعلات العسكرية على حدودها، وتحييد أي دعم خارجي لقوات غير نظامية في السودان. هذا التحليل يعكس ما يدور في أروقة صنع القرار: أن المصلحة الوطنية باتت تقتضي تحركًا جماعيًا، لا فرديًا، وأن الأمن القومي لم يعد شأنًا داخليًا، بل قضية إقليمية بامتياز.
ما تلخصه هذه الجولة من اللقاءات هو أن القيادة العسكرية السودانية تتحرك بروح وطنية مسؤولة، واضعةً مصلحة الدولة فوق كل اعتبار. فهي لا تعمل بمعزل عن تطلعات الشعب، بل تسعى إلى تهيئة المناخ السياسي والأمني الذي يسمح بانتقال سلس نحو الحكم المدني، دون التفريط في وحدة البلاد أو أمنها القومي. المطلوب في المرحلة القادمة هو خطوات حاسمة تبدأ بالانتهاء من تشكيل الحكومة المدنية و إعطائها الصلاحيات اللازمة، لإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس مهنية، وصولًا إلى إطلاق حوار وطني شامل لا يُقصي أحدًا، ويضع خارطة الطريق المطروحة في مسارها لاستعادة الاستقرار الداخلي للنهوض بالدولة السودانية و التوجه بها نحو مسار التنمية الشاملة.
ختاماً السودان اليوم يقف على مفترق طرق، والفرصة لا تزال قائمة. القيادة العسكرية، رغم ما تواجهه من ضغوط، اختارت أن تكون حامية للدولة، وأن تمد يدها نحو الحل، لا نحو التصعيد. وإذا ما استُثمر هذا الزخم السياسي والإقليمي بالشكل الصحيح، فإن السودان سيكون على أعتاب مرحلة جديدة، عنوانها الاستقرار، السيادة، والعدالة.