الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

ماذا إذا إجتمع اليمين مع اليسار تفضيلا للمصلحة العليا

محمد الحاج

.

منذ استقلال السودان في عام 1956، ظل المشهد السياسي السوداني منقسماً بين تيارات متعددة، أبرزها التيار اليميني المحافظ والتيار اليساري التقدمي. هذا الانقسام لم يكن مجرد اختلاف في الرؤى السياسية، بل امتد ليشكل بنية الصراع حول السلطة، الهوية، والنهج الاقتصادي والاجتماعي للدولة. ومع تعاقب الحكومات والانقلابات، تعمقت الفجوة بين الطرفين، ما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا تزال البلاد تدفع ثمنها حتى اليوم. لكن ماذا لو تصالح اليمين مع اليسار؟ ماذا لو قرر الطرفان تجاوز الماضي، وبناء رؤية مشتركة لمستقبل السودان؟

تعود جذور التيار اليميني في السودان إلى القوى التقليدية التي ارتبطت تاريخياً بالمؤسسات الدينية والطائفية، مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، اللذان شكلا العمود الفقري للحكومات المدنية في فترات ما بعد الاستقلال. أما التيار اليساري، فقد نشأ في خمسينيات القرن الماضي، متأثراً بالحركات الاشتراكية العالمية، وتمثل في الحزب الشيوعي السوداني وحركات الطلاب والنقابات العمالية. وبينما ركز اليمين على الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية، دعا اليسار إلى العدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية الاقتصادية.

شهد السودان أول انقلاب عسكري في عام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، ما أدى إلى تجميد الحياة السياسية، قبل أن تعود الديمقراطية في 1964 عقب ثورة شعبية شارك فيها اليسار بقوة. ثم جاء انقلاب جعفر نميري في 1969 بدعم من القوى اليسارية، لكنه سرعان ما انقلب عليهم في 1971 بعد محاولة انقلابية فاشلة للحزب الشيوعي، ما أدى إلى إعدامات واسعة وتراجع نفوذ اليسار لعقود. وفي عام 1989، استولى الإسلاميون بقيادة عمر البشير على السلطة عبر انقلاب عسكري، ما عزز هيمنة التيار اليميني، وأدخل البلاد في حقبة من القمع السياسي والحروب الأهلية، خاصة في الجنوب ودارفور.

سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019 بعد ثورة شعبية قادتها قوى مدنية، كان نقطة تحول فارقة. لعب اليسار دوراً محورياً في الحراك الثوري، خاصة من خلال تجمع المهنيين السودانيين، الذي قاد الاحتجاجات ضد النظام. ومع تشكيل تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)، بدا أن السودان يتجه نحو مرحلة جديدة من الحكم المدني. إلا أن الخلافات الداخلية سرعان ما ظهرت، خاصة بعد توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019، حيث رفضت بعض القوى اليسارية التوقيع عليها بل و انسحبت من الاتفاق مع قوي قحت الاخري، معتبرة أنها لا تحقق تطلعات الثورة و سوف تقود إلي أعاد إنتاج الانقسام القديم و تفتح الباب امام التدخلات الخارجية.

اما التيار اليميني، الذي تضرر من سقوط نظام الإنقاذ، وجد نفسه في موقع دفاعي، لكنه لم يتخل عن أدواته التقليدية في تجريم اليسار واتهامه بالعمالة والتخريب. هذا الخطاب ساهم في تعميق الاستقطاب، خاصة مع تصاعد الخلافات حول قضايا الحكم، الهوية، والدولة المدنية.

مع اندلاع الحرب في السودان بتاريخ 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع، شهدت الساحة السياسية انقساماً حاداً داخل القوى المدنية. فقد تبنّت بعض الأطراف مواقف داعمة للمؤسسة العسكرية، في حين دعت أطراف أخرى، من ضمنها مكونات من تحالف “قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي” (قحت/الإطاري)، والتي أُطلق عليها لاحقاً اسم مجموعة “صمود”، إلى وقف الحرب، تبني الحياد، والعودة إلى المسار المدني.

غير أن هذه المجموعة سرعان ما أثارت جدلاً واسعاً بعد توقيعها اتفاقاً مع مليشيا الدعم السريع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في يوليو 2023، وهو ما اعتُبر من قبل كثيرين تناقضاً مع مواقفها المعلنة. ومع تعثر جهود التسوية السياسية مع الجيش، لجأت المجموعة إلى إعادة تشكيل نفسها في مسارين متوازيين: الأول يعمل بالتنسيق مع المجتمع الدولي، والثاني يسعى إلى إعلان حكومة مدنية كأداة ضغط على المؤسسة العسكرية، بهدف دفعها نحو مفاوضات سلام تُعيد إدماج مليشيا الدعم السريع في العملية السياسية، رغم الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها بحق المدنيين السودانيين خلال النزاع.

في ظل هذا الواقع المأزوم، تبرز الحاجة الملحة إلى انعقاد مصالحة وطنية بين اليمين واليسار وجميع القوي الصلبة التي اجتازت اختبار الوطنية بصدها لمشروع اخضاع الدولة السودانية للتدخلات الخارجية، هذه المصالحة ليست من باب المجاملة السياسية، بل كضرورة وجودية لإنقاذ السودان من الانهيار.
هذه المصالحة إذا ما عقدت سوف تصبح نقطة انطلاقة للسودان بحيث تقدم فيها التنازلات من اجل استكمال الفترة الانتقالية،وذلك بالجلوس على مائدة التفاوض للوصول إلى الحد الأدنى من التفاهمات حول قضايا الحكم والسلطة، هو السبيل الوحيد لتجنيب البلاد المزيد من عدم الاستقرار، والتمهيد لانتخابات حرة بعد انتهاء الحرب.

إن السودان، الذي يعيش حالة من الفوضى بعد حرب 15 أبريل، لا يمكن أن يخرج من هذا المستنقع إلا بتوافق على الحد الأدنى من المبادئ الوطنية. المصالحة بين التيارين ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة تاريخية، تفرضها اللحظة الراهنة، وتستلزم شجاعة في اتخاذ القرار، وصدقاً في النوايا. فالوطن لا يحتمل المزيد من الانقسام، والشعب السوداني يستحق أن يعيش في دولة مستقرة، عادلة، وديمقراطية.

إذا تصالح اليمين مع اليسار، فإن السودان يمكن أن يبدأ مرحلة جديدة من البناء الوطني، تتجاوز الصراعات القديمة وتهزم المشروع التقسيمي الحالي وكل ما له من ادخال السودان في حالة من الفوضي، وتؤسس لمستقبل مشترك. هذه المصالحة ليست نهاية الخلاف، بل بداية لحوار دائم، يضع أسس التعايش السياسي، ويمنح الجميع فرصة للمساهمة في بناء الوطن. فهل نحن مستعدون لهذه الخطوة؟ وهل يمكن أن نرتقي إلى مستوى التحدي؟ الإجابة تكمن في إرادتنا الجماعية، وفي قدرتنا على تجاوز الذات من أجل السودان.


٤ سبتمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!