خلاصة الأمر !! / الواثق كمير

ماتت آسيا: سكت الكلام…خفت النغم!

الواثق كمير

لا حول ولا قوة إلاّ بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون

أكتبُ هذه الكلمات وعيني تذرف دمعاً، ذهني مُشتت، قلبي يخفِقُ، وعروقي مُتجمدة، ولا أتمالك نفسي، ولا أملك زمام أمري.

سمِعتُ للتوِ بخبر وفاة الصديقة والأخت والفنانة القديرة آسيا مدني. فلم أصدق الخبر ودخلت إلى الواتساب الخاص بها فوجدت رسالةً صوتيةً جديدةً من آسيا فشعرت باطمئنان وظنيت أن الخبر مجرد إشاعةِ سوشيال ميديا مما اعتدنا عليه. لم تصمد فرحتي إلاّ لكسرٍ من الثانية حتى اتقبض قلبي وأنا اسمع صوت أحمد بذرة، عازف الإيقاع الحاذِق والصديق اللصيق بآسيا والذي تُعرفه ب “ولدها”، وهو يجهش بالبكاء ويقول لي “آسيا توفت يا دكتور..الحقني”! اتصلت به فورا واستغرقنا سوياً في البكاء وهو يشرح لي كيف وقعت الوفاة، وما قام به مع الأصدقاء والأقربين لترتيبات الجنازة ومراسم الدفن.

سيظل يوم الأحد 16 فبراير 2025 مُسجلاً في مُذكراتي ومحفوراً في ذاكرتي بأنه من أحزن أيام حياتي.

قررت آسيا الإقامة في القاهرة منذ العام 2000، ولكن عرفنى بها الصديق الراحل الشاعر المرهف الزين أحمد بالخرطوم في أكتوبر 2011. مكثت في السودان حتى 7 مارس 2012 ولم أعد إلى البلاد منذ ذلك الحين، فتوضدت صداقتنا بقوة ضمن مجموعة نضرة خلال تلك الشهور الخمسة ضمت: رفيدة يسن وشاهناز جمال وسعد الدين حسن وعثمان فضل الله. كنا نلتقي دوما في الامسيات ونتجمع عندي في البيت وآسيا تتأَنَق وتتَألُّق وتتحفنا بالغناء الرصين. بالرغم من تفرق السبل بين المجموعة لاحقاً، إلاّ أنّ التواصل بيني وبين آسيا لم ينقطع إطلاقاً، بل كنا نلتقي كفاحاً كل عامٍ في القاهرة طوال الفترة 2012-2024، حيث أقضي في مصر أكثر من خمسة أشهر. خلال هذه المدة تسعدنا آسيا وتطربنا وتدخل في نفوس الأصدقاء والأحباب والأهل البهجة وتضفي علي الجو الرونق. كسبت آسيا حب واعجاب جميع من استضيفهم في الدار، بل وأغلبهم يتواصلون معها ويتابعون حفلاتها إما حضوراً أو مشاهدةً عبر الأسافير.

ومن جانب آخر، آسيا صديقة للأسرة الممتدة تلتقي بهم كل سنة عندي بالمنزل في المعادي في جلسة مقيل وغداء، تغني لهم فتطربهم ويتجاوبون معها في سعادة وأريحية.

كل أفراد أسرتي الصغيرة ورفيقة دربي زينب يحبون آسيا ويبادلونها المودة ويقدرونها أشد تقدير. في 9 أغسطس 2021، كانت آسيا معنا كالعادة في جلسة صفاء مع الأحباب عندما زُفّ لنا خبر ولادة حفيدتي الأولي التي اختار لها والديها اسم “ماكسين“. وبينما هي معنا انزوت آسيا عنا لفترة وجيزة لتعود وهي قد صاغت كلمات أغنية وقامت بتلحينها فورا وتقديمها للحضور، ومطلعها:

منتظرنك لينا سنين…يا ماكسين…

جدو الواثق …طيب وحنون….
حبوبة زينب…أم الحلوين…يا ماكسين..

العام 2020، الذي نطلق عليه سنة “الكورونا”، أتاح لنا فرصة لقضاء وقت أكبر للقاء، إذ قضيت بالقاهرة حوالي السبعة أشهر، من مارس إلى أكتوبر 2020. فتوقفت ارتباطات آسيا الفنية، وحينها كان نقيم في البيت أنا وصديقي القديم أبوبكر، المعروف ب “كولي”، ومحمود صديقنا من أسوان. من جهةٍ، كنت مشغولاً بكتابة مسودة كتابي عن رحلتي مع منصور خالد نهاراً، ومن جهةٍ أخرى، استغرق ثلاثتنا في محاولة الغناء مساءاً، وآسيا تُسيطِرُ على الإيقاع وتصرف لنا التوجيهات والتعليمات. خرجنا ب “ألبوم” فيديو سجلنا فيه أكثر من عشرين أغنية، وسميناه: “نجوم ما قبل الأمس: الإبداع في زمن الكورونا!”. (الألبوم متوفر لمن يريد أن يقتنيه)
آسيا وكولي صديقان متشاسكان يناكفان بعضهما ولكن بحب ومودة، ولهما العديد من المواقف الطريفة. ففي إحدى الأمسيات كانا يتناقران حول التنوع العرقي والاثني في السودان. فكانت آسيا تفاخر بأصلها فقالت ليه”أنا يا كولي من الفولاني، أنا أصولي من مالي”، ظانة أنها قد سجلت عليه نقطة، فالتفت إليها ورد عليها بكل برود “والله أنا ما بعرف إلا مالي والهوى (اغنية عثمان حسين)”! فانتفضت آسيا وكادت أن تشتبك معه، حتى تدخلت أنا وفصلت بينهما، بينما لم تمر برهة قليلة حتى عادا إلى سيرتهما الأولى وكأن شيئا لم يحدث.

وسبحان الله أن كولي (ومعه ابن أخي سامي فيصل/دبوس)، وهو موجود بالقاهرة كأحد الهاربين من الحرب، قد كان حاضرا مراسم الدفن بعد أن أبلغه بذرة بخبر الوفاة.

لم تكن آسيا مطربة عادية، تمتاز بصوت جهور، ورغما عن مشاركتها في بعض مناسبات الفرح الاجتماعية، إلا أنها لم تكن لاهثة ل العددادات ولا تستهويها الجلسات الخاصة والقعدات “الدكاكينة”. وكانت تغضب بشدة وتنفعل كلما نقول لها انها تحتاج لأن تركز على المشاركة في الحفلات الخاصة التي تدر دخلاً معقولاً حتى توفر ففلها من المال ينفعها في المستقبل. فلم تكن ترتاح لمثل حديثنا هذا لحد “الزعل” وتعكير المزاج وتطلب بالحاح تغيير الموضوع. فآسيا بحق كانت فنانة مختلفة النهج وتحب أن توصف نفسها ب الطليعية. آسيا كانت صادقة في توجهها ومتحدية للصعاب والعراقيل، كما تنضح بالمشاعر الإنسانية النبيلة. فكانت تشارك بسخاءٍ وتساهم في الحفلات الخيرية للمنظمات المجتمعية والطلابية، سودانية أو مصرية على حدٍ سواءٍ. وتعبيراً عن الامتنان، فقد تم تكريمها من رابطة أبناء دارفور بالجامعات والمعاهد العليا بمصر، في ديسمبر من العام الماضي.كما كرمها طلاب الجامعة الكندية في مصر في مشروع للتخرج بفلمٍ وثائقيِ عنها كفنانةٍ وعن قصةِ حياتها، أيضاً في النصف الثاني من ديسمبر نفسه. تكريمان لآسيا خلال شهرٍ واحدٍ وقبل شهرين فقط من وفاتها، وكأنها رسائل وداعٍ لقدرٍ مخبوء لا يعلمه إلاّ الله.

بل كانت لآسيا رسالة وقضية ومنحازة للتغيير الاجتماعي في السودان، وكانت تشارك في مقاومة نظام الإنقاذ، وتشترك في الوقفات الاحتجاجية. وكنت وبعض من أصدقاءنا نشتبك معها في مواقفها هذه ونطلب منها أن تكف عنها بوصفها فنانة وأنه يكفي توصيل رسالتها والتعبير عنها بالغناء والموسيقى بعيداً عن الأدوات السياسية القحة. وكلما اشتد انتقادنا لها كانت آسيا تُفحمنا بقولها أن “الفن سياسة والسياسة فن، وأن الفن الحقيقي هو المعبر عن الوطن والشارع السلام والحب والجمال”، لنتركها في حالها.

تُمثل آسيا مدرسة فنية إبداعية متفردة وقائمة بذاتها، قامت عليها ورعتها باقتدارٍ وصبرٍ وإيمانٍ بغايتها الكبرى. فقد أنشأت فرقة متكاملة من مختلف آلالات الايقاعية المتنوعة، وكل أفراد فرقتها من العازفين المصريين الماهرين، والذين تعلموا منها وانسجموا معها، في كل الايقاعات الموسيقية لمجتمعات السودان المتعددة. ومع إجادتها لأغاني الحقيبة والأغاني السودانية الحديثة، إلاّ أنّه كان لها همٌ آخرٌ دفعها لشقِ طريقٍ جديدٍ أولت فيه اهتمامها للفلكلور والتراث الشعبي.
صنعت آسيا لنفسها جمهور كبير في خارج السودان، خاصة في مصر حيث تستضيفها مختلف القنوات المصرية. بجانب أنها تقيم حفلاتها في النوادي الثقافية المصرية والأجنبية، في ساقية الصاوي، وفي “الجاز كلوب”، ودار الأوبرا، ومكتبة الإسكندرية، والقلعة، ومعهد جوتا.

كانت آسيا تُشارك بانتظام في المهرجانات الموسيقية في مصر وأفريقيا (مهرجان صوتي زابوسارا بزنزبار) وأوروبا في مهرجان الموسيقى العالمي، بل وطافت ولايات أمريكا الخمسين ضمن برنامج “مشروع النيل للموسيقى”. فقد لعبت آسيا دورا رائدا في تعريف العالم بالإيقاعات والنغم والإبداعات السودانية الموسيقية في كل هذه المناسبات. حقاً، كما يسميها الوسط الفني والإعلامى المصري فهي “سفيرة أو مرسال الفولكلور السوداني”، وهكذا نعتها الصحف والمنصات الإعلامية المصرية ساعةِ ذيوعِ خبر وفاتها. وبتصميم وعزيمة لا حدود لها، أصرت آسيا رغما عن مرضها وظرفها الصحي الحرج أن تشارك في مهرجان الأقصر للسينما المصرية في 9 يناير المنصرم. فهي وكانت تكاد أن تنهار من الإرهاق شاركت بحلاوة الروح في أغنية افتتاح المهرجان بدويتو مع الفنان الصعيدي حسان القوصي، وكأنها كانت تحس بدنو أجلها. وقد كتبت آسيا على الفيس بوك، في 6 يناير، كلمة حزينة ومُحزنة قالت فيها “اللهم أشفي كل مريض يتألم ولا يتكلم ولا يعلم بحاله إلاّ أنت. اللهم أسألك الشفاء لكل روح عجزت عن النوم بسبب المرض. ربي أرح ثم هون ثم أشفي كل نفس لا يعلم بوجعها إلاّ أنت، إنك على كل شيء قدير. دعواتكم!”، مما دفعني على الإتصال بها.

إن حيانا الله وختينا العوارض سأكون في مصر في أبريل القادم، وعادة ما تكون آسيا في استقبالي. وحقيقة لا استوعب كيف سيكون حالي في القاهرة هذا المرة، فلا أظن أن المكان سيكون هو المكان، وكيف ستكون جلساتنا مع الأصدقاء والحبان بدون آسيا وهي جالسة في مكانها الذي لا يستطيع أحد أن ينازعها فيه أو يزحزحها عنه بالحُسنى أو بالإكراه.

اللهم يرحم آسيا ويتقبلها قبولاً حسناً ويسكنها فسيح جناته. الدوام لله والبقاء له وحده.

البركة في أسرتها الممتدة وجميع أهلها وفي أصدقاءها ولكل المجتمع الفني في مصر والسودان، وفي كافة محبيها ومريديها ومعجبيها في كل مكان.

عزائي الخالص لصديقي أحمد بذرة وأطلب من الله أن يلزمه الصبر ويربط قلبه. فآسيا وبذرة لم يكن ليفترقا إلاْ في ظروف جبرية، فهو وجيعها وشيال همها ومن يقضي معها أغلب الوقت. عانت آسيا كثيراً وشقيت عندما كان بذرة يُقضي فترته في التجنيد العسكري الإلزامي.

عزائي لرفيدة يسن وشاهيناز جمال وسعد الدين حسن وعثمان فضل الله، والرحمة والمغفرة لصديقنا المُشترك الراحل الزين أحمد الذي عرفني بآسيا.

العزاء الحار لكل أعضاء فرقة آسيا الموسيقية ومديري أعمالها: أحمد بذرة، أحمد علي، أحمد عمر، إيهاب بوب، زياد عصام، مصطفى كرداني، مهند، عادل ميخا، ميمي، ووائل السيد. والعزاء موصول إلى نوران نبيل وهاجر حماد وراما الريان.

والعزاء الحار أيضاً إلى صديقات آسيا: أميرة محمد خير، سوزان كاشف، نجاة بشرى، آمال وإشراقة شيبون، عفاف عطا المنان، تهاني عباس، سامية طمبل، فاتن كابو، علوية كبيدة، رؤى خير، سهام وسامية الزين، هادية طلسم، فاطمة إدريس، نوال جحا، منال مالك، ميمي صلاح، رشا عوض، فادية قدم الخير، سمية السيد، ناهد محمد الحسن، سلافة صديق، إبتهال إدريس، جوليا مامور، وولاء الفنانة الموهوبة. العزاء الحار لعبير وزوجها إبراهيم شبانا اللذان سميا ابنتهما الوحيدة ب “آسيا”. أيضاً والعزاء والشكر موصول لكل بنات اخواتي وأخواني ممن يعرفن آسيا التي كانت تُسعدهم وتُدخل الفرح في قلوبهن. (وليسامحنني من فاتني ذكرهن)

والشكر والعزاء معاً لكل اصدقاءنا المشتركين، ولمن قدم ليّ المواساة في الفقد العظيم، وأخص: كولي، مالك عقار، كمال الوسيلة، سيد منياوي، محمد منياوي، سعد فيصل، سامي حسب الرسول، خالد الحجزي، متوكل إبراهيم، عبد الله عباس، د. حسن شيخ إدريس، حسبو حسن عباس، الطيب حسن عباس، الفاتح كمير، عوض سيد دسوقي، معتصم عبد الغني، وائل محمود ضاحي، د. صلاح الأمين، عبد الباقي مختار، د. بشير إسماعيل، عبد الحليم جاويش، حاتم عبادي، محمد خالد، عبد العزيز عابدون، عبد الحميد العرضي، عادل حمزة، كمال نملة، محمد حسين بابكر، د. صلاح محمد عمر، د. صالح خلف الله، علي زهير، المحبوب عبد السلام، صلاح الأمين، عادل عبد الوهاب، معتصم عبد الغني، د. عاصم صغيرون، عبد المنعم الجاك، معتز العركي، وليد العركي، جابي غبريال، عمر سعيد، عمر إحساس، الصادق شيخ الدين، عادل جعفر، محمود وطارق سيد إراهيم، فؤاد القوصي، أبو سامية، محمد المليك، د. إسماعيل أبو، السفير جمال محمد إبراهيم، أحمد سامي، وليد هاشم، الهادي الرشيد دياب، نزار عبد الله، سيد القوصي، حسن الفكي، محمد عثمان أحمد (حبة)، محمد عثمان دربج، مبارك الكودة، محمود عز الدين، محمد عوض أبو العلا، مصطفى محمد علي، منى أبو زيد، معز مزمل حسب الرسول، جمال الثعلب، فائز السليك، بروف محمد الأمين التوم. مصطفى سري، حسبو مزمل حسب الرسول، عمر مصطفى، أشرف عكاشة، سامي الصاوي.

ماتت آسيا وسكت الكلام وخَفتّ النغم!

الواثق كمير

تورونتو، 17 فبراير 2025

اترك رد

error: Content is protected !!