✍️ د. أحمد عبد الباقى
كثيرة هي إبتلاءات السودان وكثيرة هي معاناة شعبه لدرجة يصاب المرء معها بالحيرة الزهنية في كيفية الخلاص،إحدي هذه المعاناة مشاكل التعليم العالي عموما والتي لا يمكن مناقشتها في هذه المساحة أو علي المستوي الشخصي بل ينبغي أن يكون حلها جزء من سياسات تتخذها الدولة ، ومع ذلك ثمة واجب إنساني ووطني يحتم أن تتفاعل الحكومة ممثلة في مجلس السيادة و الرأي العام السوداني ومنظمات المجتمع المدني مع الآثار الناجمة عن تلك المعاناة التي يتعرض لها طلاب مؤسسات التعليم العالي بمختلف مستوياته خاصة في الثلاث سنوات الأخيرة (2018-2022)، مما يتسوجب التعاطي مع هذه المشكلة وطرق كل الأبواب لحلها. وذلك لأن هذه الشريحة تمثل مستقبل السودان وهي محط آمال وأحلام وطموحات كثير من الأسر السودانية التي تري في شخوص إبنائها الطلاب أحلامها العراض والمستقبل المشرق.
أفادت آخر الأحصائيات أن عدد مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة بلغ أكثر من 60 مؤسسة مسجل بها أكثر من 600 ألفا طالبا (معظمهم من طلاب الجامعات الحكومية)تضرروا بتوقف الدراسة في هذه المؤسسات التي تأثرت بمجمل الأوضاع الحرجة التي يواجهها السودان حاليا. توقف الدراسة ألقي بظلاله القاتمة علي الطلاب و الأسر والمجتمع فتحولت حياتهم إلي ظلام دامس تطاردهم كوابيسه ليلا فيصيبهم الأرق وتعكر صفو حياتهم -التي لا تنقصها المُنَغِّصات (تكدر الحياة)- نهارا، لذا آثرت بعض الأسر المقتدرة البحث عن فرص دراسية لأبنائها خارج السودان في دول مثل مصر، تركيا و ماليزيا ولا عزاء لغير المقتدرين.
كوابيس الطلاب في الظرف الراهن ما أكثرها: منها أن دفعات 2019،2020،2021 ما زلت في السنة الاولى وهذا يؤكد مدى التراكم الكلي للدفعات لدرجة أن بعض الطلاب من شدة سخريتهم يطلقون أسماءً علي الدفعات المعطلة والذين مازالوا في المستوى الأول، كأولى حمدوك (طلاب تم قبولهم في عهد رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك)، واولى كورونا (طلاب التحقوا بالجامعة في العام 2020)، وهناك أيضاً (أولى انقلاب) (منقول بتصرف من تقرير منشور في صحيفة الصيحة 24 فبراير 2022م). كذلك هنالك بعض الطلاب بقي في دراستة التي من المفترض أن تنتهي في أربع أو خمس سنوات ولكنهم بسبب هذه العقبات أمضوا سبع سنوات منها اثنتين أو ثلاث عجاف لم تنتهي معاناتها بعد. هذا التأخير ترك آثارا نفسية مدمرة علي مستقبل هؤلاء الفتية والفتيات. من الآثار هذه ضبابية مستقبلهم وبسبب الفراغ الكبير الناجم عن توقف الدراسة وإنعدام فرص للعمل أو البرامج المفيدة لسد ذلك الفراغ.
الفراغ حسب علماء النفس يمثل عاملا للتحطيم النفسي و فقدان الثقة بالنفس مما يترك آثارا قد تمتد مع الفرد طول حياته. الفراغ يؤدي إلى الملل والسأم والتسويف والقلق وحتى الاكتئاب ويمكن أن يؤدي أيضاً إلى اكتساب عادات سيئة وعدم التركيز وكذلك عدم الانضباط. يمكن أن ينجم عن هذا الفراغ حالة من الإحباط عند البعض فيصبح لا يبالي بما يجري حوله وربما يلجأ للمخدرات هروبا من الواقع التعيس و ربما يقع ضحية للإنحراف الاخلاقي أومصاحبة رفقة السوء. وهنا يبرز أهمية الاسرة في تقديم الدعم المعنوي والنفسي لهؤلاء الطلاب والوقوف إلي جانبهم وعدم تركهم لوحدهم يواجهون هذه المعاناة والترفق حتي تعدي هذه الأزمة.
كل ذلك دون شك ينعكس علي استقرار الأسر التي هي نفسها عرضة للضغوط الاقتصادية بسبب الأوضاع المعيشية الضاغطة التي لا تستطيع معها بعض الأسر تدبير مصاريف الدراسة لأبنائها الذين يدرسون بالجامعات مما يعرض هذه الأسر لضغوط نفسية نسبة لتغير حسابتها المالية في الصرف علي أبنائها حسب ما هو مخطط له أو ربما العجز عن الصرف مستقبلا عليهم مما يشكل ضغطا نفسيا، وربما يكون فيه رب الأسرة عرضة للإكتئاب والإحباط مما يزعزع استقرار تلك الأسر وبالتالي يصبح أستقرار المجتمع أيضا علي المحك.
تجري الرياح كما تجري سفينتنا:
قال شاعر عراقي:
تجري الرياح كما تجري سفينتنا نحن الرياح و نحن البحر و السفن إن الذي يرتجي شيئاً بهمّتهِيلقاهُ لو حاربَتْهُ الانسُ والجنُّ
فاقصد إلى قمم الاشياءِ تدركها**تجري الرياح كما رادت لها السفنُ
تأسيسا علي تلك الأبيات دعونا نتفاءل خيرا و أن يعمل من يهمه الأمر وهم المجلس السيادي وزارة التعليم العالي والإدارات العليا للجامعات وأيضا منظمات المجتمع المدني وأصحاب المصلحة ( أسر الطلاب) بالعمل علي تذليل تلك الصعاب لتستأنف الجامعات دراستها وهذا يتطلب حلولا لا أظنها عصية إذا ما صدقت النوايا وعكف أصحابها علي التفكير خارج نطاق المألوف لوضع حدا لهذه المعاناة.
كامل التعاطف مع المطالب العادلة لأساتذة الجامعات السودانية و ضرورة تنفيذ الاتفاق الذي تم حول الهيكل الراتبي، مع وضع تدابير أخري مؤقتة و بإطار زمني محدد لحل تكدس الدفعات: (أ) النظر في كيفية وضع جداول المحاضرات علي نحو يسمح بمضاعفة العبء الأكاديمي للأساتذة مقابل أجر إضافي (ب) وضع ميزانية للإستفادة من طلاب الدراسات العليا لمساعدة الأساتذة في بعض الأعمال الأكاديمة (تدريس السنمارات ، رصد الدرجات، التصحيح الخ….) وكذلك الاستفادة منهم في المعامل و المكتبات نظير أجر معقول وفقا لنظام الساعات (ج) بحث إمكانية أن تعمل الجامعات بنظام الدوامين (صباح ومساء) للإستفادة من القاعات والمعامل بصورة قصوي ويمكن أيضا الأستفادة من قاعات الاجتماعات والمؤتمرات بالمؤسسات الحكومية (التي علي مقربة من الجامعات أو يسهل الوصول لها) بعد إنتهاء الدوام وفي أثناء عطلة نهاية الأسبوع (د) الاستفادة من أساتذة الجامعات و الأكاديميين السودانيين بدول المهجر في التدريس بإستخدام تقنيات التعليم عن بعد مثل مؤتمرات الفيديو بحيث يتم ذلك في قاعات الدرس بوضع أجهزة عرض كبيرة لحل المشاكل التقنية التي تعوق الدراسة عن بعد من خارج مقرات الجامعات ومراعاة لظروف بعض الطلاب الذين ليس بمقدورهم الحصول خدمات الانترنت أو إقتناء الأجهزة المناسبة لذلك الغرض.
هذه مجرد مقترحات أري و سكان مكة أدري بشعابها وأن أساتذة الجامعات لن يعيهم التفكير خارج إطار المألوف للتصدي لهذه المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة وفقا للمعطيات السائدة وبحسب خبرتهم و إلمامهم بالتفاصيل.
أكيد أن مثل هذا العمل يحتاج لميزانيات خارج الميزانيات السنوية المخصصة لمؤسسات التعليم العالي وبالتالي لا بد من توفر دعم مالي ربما يُكون له صندوق خيري تحت إمرة وزارة التعليم العالي لتوفير الأموال اللازمة لتنفيذ المقترحات المذكورة أو أي مقترحات أخري مناسبة كما يراها من يهمه الأمر وأصحاب المصلحة لوضع حد إلي هذه المعاناة. يساهم في هذا الصندوق الحكومة، الشركات التجارية الكبيرة مثل شركات البترول والإتصالات، رجالات البر والإحسان وفتح حملة لكل من أراد أن يتبرع من عامة الشعب خاصة الذين في دول المهجر.