كانت الملحدة الأوربية المسنة تتحدث عن الإلحاد بهدوء وثقة ومنطق ثم تعرج بذات الهدوء على نقد محاولات دعاة الإلحاد في ازدراء وتحقير الأديان إعتمادا على نتائج وممارسات المتدينين. وباختصار تقول، هل مثلا لو تحدثنا عن العنف الكروي كممارسة ملازمة للرياضة يمكن أن يقودنا ذلك إلى أن كرة القدم شيء سيء؟ وهل إذا ظهر تطرف من جماعة ملحدة يعني أن الإلحاد شيء سيء؟ هل ننتظر إرهابيي قضايا البيئة والتغير المناخي ليقوموا باعمال سيئة لنزدري قضايا البيئة التي جرتهم إلى ذلك؟ الدين ليس شيء سيء بل هو محاولة إنسانية للإجابة على سؤال؟ والإلحاد محاولة وانا أراها هي الصحيحة.
وتتابع، الإلحاد عملية إقناع منطقي علمي حول وجود الاله من عدمه، وإذا استخدم في صراعات حول دين محدد يفقد منطقيته وعلميته.
شخص آخر في الجلسة الصباحية في المقهى القديم، يقول أنا لست ملحدا ولست مؤمنا ولست منزعجا لذلك، واعتقد أصلا النقاش حول الإلحاد يحتاج إلى مستوى فكري ليس بالضرورة أن يكون شعبيا، أنا نفسي عندما أكون مشغولا بفواتيري لا أحب أي نقاش حول الإلحاد أو الدين، لذلك غالب الناس لديهم كامل الحق في تمرير ما يجدونه في المجتمع من دين وأفكار وألا يوافقوا على النقاش الذي لا يريدون.
ميشيل أونفري، الفيلسوف الفرنسي ومؤلف “المنفستو الإلحادي في مواجهة الإسلام والمسيحية واليهودية” يقول لماذا نشغل أنفسنا بأن غالبية المسلمين في بلد ما يريدون تطبيق القوانين الإسلامية عليهم، هذا أمر يخصهم، نحن معنيون بالقوانين التي تطبق في بلادنا يمكننا نصحهم لكننا لسنا أوصياء على اختياراتهم.
أعتقد أن أونفري لأنه بمدرسته “النتائجية” يرى ان العالم يجب ان يمر بكل مراحل الصراع.
أونفري انتقد الرسوم المسيئة للرسول الكريم من منظور علماني إلحادي، وآخرين أيضا اعتبروها تمثل اليمين القومي في الغرب والنزعات الشعبوية المعادية للمهاجرين فقط لاغير ولا علاقة لها بالإلحاد ولا العلمانية ولا حتى حرية التعبير وأن وقوف الملحدين معها انجرار إلى معركة تخص الرجعيين وتنعش بؤر التطرف الإسلامي.
علماني مصري يحمل كتاب فيه إساءات للصحابة ويغضب جدا للإساءة لأبي بكر الصديق ويرد على المؤلف بمرارة وأسى وحب للصحابة ويتهمه بانه ينشر البلبلة في المجتمع المصري.
بالنسبة له، وربما معظم المثقفين المصريين، يوجد في مصر خطة إصلاح إقتصادي لشعب يفوق المئة مليون وظروف قاسية وأن تغيير عقائد الناس لا صلة له بالعلمانية وأن دور مصر الرائد للعالم الإسلامي مفخرة لها ومن ضمن أصولها الأساسية أن يكون لديها انتاج ثقافي ودرامي إسلامي أفضل من غيرها. يكاد هذا العلماني أن يكون سلفيا في تلك اللحظة وذلك من أجل مصر، ولأن علمانيته أو كراهيته للإسلام السياسي لا تعميه عن مصالح بلاده ولن تجعله يركب في ادعاء الدفاع حرية التعبير ليرضى عنه سفير أو خواجة .. مصر ومصالحها أهم له.
ذكرت من قبل إعجابي بالعلمانية المصرية وهو إعجاب لا ألام عليه لأنه ليس إعجابا بالعلمانية في جوهرها “اللادينية السياسية” إنما “بالمقارنة بين نسخها” لأن العلمانية المصرية وطنية وخالصة ولا تشوبها عمالة ولا ارتزاق. لا أذكر فترة إقامتي في واشنطون أو زيارتي العواصم الأوربية أنني وجدت علمانيين ولا إسلاميين مصريين يدعون إلى معاقبة بلادهم وحظرها ومحاصرتها، ولم أجد متظاهرين يطالبون بإيقاف مشروعات تنموية أو سدود، هنالك مجموعات تطالب بإطلاق سراح معتقلين وصحفيين وتتحدث عن ظروفهم السيئة في الاعتقال ولكن لم تسع أي معارضة حزبية مصرية لتحويل مشكلات مصر إلى شأن أمريكي داخلي البتة، توجد محاولات فردية فاشلة ومعزولة.
الديبلوماسي المصري لا ينتقد بلده حتى لو فصلته الحكومة، ولا يفكر باللجوء بعد نهاية خدمته بل في العودة لوطنه ومؤسسته، إلا حالات نادرة تبحث عنها بصعوبة، ولكن الديبلوماسية السودانية في حكم اليمين واليسار على حد سواء تحتشد بأمثلة مقززة وخطيرة للغاية، أقلها – وعند أكثرهم وطنية – أن تبقى الزوجة والعيال باللجوء بمبررات الإحتيال بمرض طفل (إلا من صدق وقليل ما هم) أو رفض المرأة للعودة، ويعود الديبلوماسي أو حتى النظامي – بكل أسف – شخصية أساسية في دولاب الدولة وهو يحفظ عن ظهر قلب إجراءات فيزا جمع الشمل وبيع وطنه في أقرب هزة داخلية.
طوال خدمته في محطته ومن اليوم الأول وهو يخطط لهذا الأمر ويحشد له المبررات أكثر من تخطيطه لعمل الدولة.
بعد هذا .. هل لدي حق في التغزل في العلمانية المصرية أم لا؟! أقولها وأنا حزين للغاية من انتهازية الإسلاميين وعمالة اليساريين.
العلماني المصري عندما تلتقيه في القهوة إذا أعجبه نقاشك يدعوك إلى منزله، وهناك تجد “أوضة المكتب” مرتبة ونظيفة وفيها كتب ولديه مؤلفات وهو يعكف على ترجمة مسرحية ألمانية مثلا، ولا يفكر في تقديم نفسه خبيرا ولا كفاءة ليتعلم الحجامة في قفا اليتامى ويحكم بلده وهو يدري أنه سيفشل في ذلك، ولا ينشغل كثيرا بالتحريض على الإخوان المسلمين، يكتفي بالنقد العام الموجود، وليسوا همه الشاغل، بل تجد مؤلفاتهم في مكتبته ويبدي لك إعجابا بكتاب فقه السنة لسيد سابق ويعتبره النقلة الأهم من الفقه المذهبي للمقارن.
العلماني السوداني، لو زرته لديه قصص وحكاوي وشماعات للفشل، ولو كان من عمر أقل ليس لديه تاريخ ولا حكاوي، لديه بنطلون جينز ممزق وشعر مفلفل وشتائم واشاعات حول فضائح الإسلاميين، ورفقة قهوة وبليلة تحت شجرة وأكاذيب لا ينجوا منها حتى رفاقه لأنه سيتهمهم فردا فردا بالعمالة للأمن والكيزان، ولو ذهب وترك لك بصاقه وشتائمه ستجد علماني آخر يحتسي ذات القهوة ويتهم الأول بذات الإتهامات. لا يوجد شيء يجمعهم سوى دعاية مضادة ضد طرف ما، إسلامي في المقام الأول أو بالعدم “وأحيانا على بكر أخينا * إذا لم نجد إلا أخانا”، المهم أن يفيض عليك بالطاقة السلبية ويتهم ويدين شخص ما ويذهب لمجلس آخر بذات البؤس والفجور في الخصومة.
الشهادة لله – هنالك إستثناءات – ومنها الدراميين والفنانين المحترفين، لأنهم كما يقال يتلقون رواتبهم من الشعب السوداني مباشرة وشباك التذاكر بالنسبة لهم أهم من السفارات والمنظمات والاحزاب، أما المتعاملين الأساسيين مع الخارج والناشطين هناك.. لا يوجد منهم غير السم الزعاف.
أيضا لأن الدراميين والفنانين ملزمين بتقديم الإبداع والتنوير بقضايا المجتمع مهما كان الحاكم ولذلك كان العهد الذهبي في إنتاج المسلسلات السودانية في زمان الطيب مصطفى لأنه كان مصرا على التحول من الدارما العربية للسودانية وقد نجح، والتلفزيون بعد التغيير بسبب فقر المادة وربكة الإقصاء والإنتاج اعتمد بالكامل على أرشيف حقبة الطيب مصطفى رحمة الله عليه.
أعود عشر سنين للوراء في مقهى الفيشاوي في دبي، وضابط سوداني معاش، ينفث دخان الشيشة ويقول لي بالحرف الواحد “الحزب الشيوعي السوداني إستثمار أمني إسلامي”!
ويواصل، لا بد من وجود فاعل وقوي للحزب الشيوعي السوداني وإلا سيفقد الإسلاميون مبرر وجودهم، أو حتى وحدتهم الداخلية، كما أن وجود الشيوعيين في المعارضة يربكها ويفككها باستمرار، لقد حرص صلاح قوش باستمرار على وجود الحزب الشيوعي مع تضييق عليه من حين لآخر.
قلت له انت واثق من الكلام ده؟ ولا تحليل؟ قال لي التحليل دا حقكم انتو .. أنا جزء من الكلام دا ولست مجرد واثقا منه.
قلت له لكن الشيوعيين مثقفين وأذكياء ويمكنهم بسهولة إكتشاف هذا الفخ؟! قال بهدوء ونفس عميق من النرجيلة، مهما اكتشفوا، مبرمجين على كدا، مراراتهم مع الإسلاميين والأحزاب التقليدية بتعميهم عن أي شيء ولحسن الحظ أي محاولة أصلاح داخلية قمعوها.
منذ فترة طويلة وأن مقتنع تماما بأن المخلوق اليساري السوداني كائن مبرمج على تدمير خصومه وليس بناء نفسه أو بلده، وأن المزاج اليساري السوداني لم ولن يتحرر من السيطرة الشيوعية وبالتالي التوظيف الماكر من قبل الإسلاميين أو الشموليين. وكما قال أحد الشيوعيين المفصولين “نحن طلعنا من الحزب، لكن ما طلع من جوانا”!
عقلية المخلوق اليساري السوداني win-lose و لن تصبح أبدا وتحت أي ظرف win – win سيكون مشغولا بتدمير شيء، باشانة سمعة شيء، بتخريب أي وفاق أو اتفاق حتى ولو تم إقصاء الإسلام السياسي من الحوار، لأن وجود الإتحادي والأمة بالنسبة له يعني وجود حاضنة يمينية أو وسطية يمكن أن تعيد إنتاج خصومه الإسلاميين.
الجيش السوداني أيضا سيبقى هدفا مشروعا له – ليس بسبب قضايا حقوق الإنسان لأنه عندما كان في السلطة في مايو بررها – ولكن لأن الجيش السوداني إما مليء بالإسلاميين أو أنه – حتى لو تم طردهم – سيكون جيشا قوميا محايدا وليس من أولوياته اقصاء اليمين أو اليسار، وهذا مرفوض. يجب أن يكون جيشا لضرب الرجعيين الذين يشملون الإسلاميين والأمة والإتحادي وغيرهم، وقد حدث هذا من قبل في بدايات مايو.
اذن من هو صديق أو حليف المخلوق اليساري السوداني؟ من هو حليفه في معركة التنوير المزعومة؟ من هو الذي سيأمنه ويعمل معه؟ الإجابة لا أحد، كلهم اعداء يجب تكبيدهم الخسائر وليذهب الوفاق الوطني والإقتصاد السوداني إلى الجحيم!
حتى الوجود الغربي عندما يفكر في إستمرار المكون العسكري بسبب الإحتياج له في مكافحة الهجرة غير الشرعية أو الإرهاب، له الويل وسيتم انتقاد شخص مثل فولكر الألماني كما يتم انتقاد اسحاق أحمد فضل الله أو البشير أو حتى الظواهري وزعماء طالبان.
أيضا عندما يفكر الوجود الغربي الرأسمالي في الإبقاء على القطاع الخاص السوداني والتعامل معه بعدالة مثلما يتعامل مع الناشطين السودانيين، له الويل في ذلك، لأن القطاع الخاص فيه إسلاميين ورجعيين ومن لايؤمنون باليسار السوداني لأنهم ضد الإشتراكية وأعداء الفقراء وعملاء البنك الدولي و…
وفجأة يظهر كلام من حقبة الستينات والمد الشيوعي الأحمر.
بكل صراحة نسخة العلمانية في السوداني واليسار عموما نسخة تدميرية تخريبية تأكل نفسها وتحطم نفسها والجميع في النهاية.
هي ثقب أسود يفني طاقات أي مشروع تنويري سوداني، وقد فشلت كل المحاولات للفكاك من هذه العقدة الجهنمية، وآخر المحاولات الفاشلة هي المؤتمر السوداني، حيث اتيحت له فرصة لشغل مساحة الوسط السوداني الذي تقهقر عنه الإتحاديون، ضاعت الفرصة ومضت الأيام وهو “يعيش في جلباب أبيه”!
الدرس الذي يجب أن يعرفه الشباب الجدد، أن الغرب مثل الإسلاميين يجيد تماما استخدام المخلوق اليساري السوداني لتوثيق الإدانات المغلظة للقوات النظامية السودانية وبعد ذلك يمارس عقوبات “قرص الأذن” للعسكريين ثم يقايض ملفات حقوق الإنسان بأولوياته الأمنية والإقتصادية مع المكون العسكري، ويترك الضحايا في العراء.
الغرب يا سادتي يريد العساكر صولجانا لحكمه، والناشطين كرباجا على ظهر العساكر ليطيعوه، ولكن أحلام التمكين للديموقراطية في السودان وتأسيس نظام يحترم حقوق الإنسان بالمواصفات التي يمارسها عنده، هذا أمر مرفوض البتة.
التنوير والديموقراطية .. هذه معارك داخلية، واختصار الطريق بنفوذ أجنبي لحسمها مجرد أسطورة لا تتحقق بل يتحقق دائما نقيضها.
على سبيل المثال، أين ملف القبض على البشير وتسليمه إلى لاهاي؟ الجواب لقد كان ملفا مهما لرجل وهو حاكم حتى ينالوا منه ومن نظامه ما يريدون؟ لكنه الآن باتت الردود تأتى على شاكلة يجب على حكومة السودان تمويل محاكمة البشير، ثم يتم جس النبض بتسريب أخبار من مدعي الجنائية الحالي اسد كريم خان (وهو محامي وزير الصحة السابق بحر إدريس أبو قردة) عن احتمال شطب التهم عن البشير وهارون وعبد الرحيم بسبب أن الأدلة غير كافية.
في محاكمة رئيس كينيا – وبكل بساطة – اختفى شهود الإدانة وتم حفظ الدعوى، من اخفاهم؟ وكيف يتم هذا؟ وهنالك برنامج حماية شهود قوي للغاية؟
الخلاصة .. مقايضات دولية وصفقات مشبوهة لا يعرف عنها الضحايا ولا الناشطين المؤمنين بقضيتهم أي شيء؟ أما الناشطين المحترفين و”العاملين عليها” يعرفون!
أخيرا وليس آخرا، ما هو الحل؟ لأنه ثبت تماما أن ارضاء المخلوق اليساري السوداني مستحيل، وأنه يريد حوارا أو وفاقا أو شمولية على مقاساته المحزقة ومثل بنطلونه الجينز الممزق.
محاولات العساكر لارضاء المخلوق اليساري السوداني أو شراءه فاشلة وإن نجحت. وهي أصلا محاولات لا أخلاقية ولا ديموقراطية … ماذا يساوي المخلوق اليساري السوداني أمام 40 مليون مواطن سوداني لدى 20 مليون منهم بلغوا سن التصويت استحقاق انتخابي معلق لعقود.
الحل ببساطة في الانتخابات الان قبل الغد.
اي التفاف عليها لانتظار قرار غربي بحذف العساكر من الخارطة السياسة السودانية مجرد وهم كبير لن يتحقق بل قد يتحقق نقيضه ويتحالف الغرب مع الديكتاتورية التي يصنعها بنفسه خوفا من حكومة يصنعها الشعب السوداني وبحساباته الوطنية.