✍ مكي المغربي
للغرابة فإن السؤال عن الهوية السياسية يتصاعد محليا، لكنه قليل الأهمية خارجيا.
منذ زمن طويل وأنا مرتبط بالشبكات الاعلامية والكتل الاقتصادية الداعمة للاقتصاد الحر في أفريقيا والمناهضة للاشتراكية والهجين. بالنسبة لأصدقائي في أفريقيا والدول الغربية فان الحديث عن أي شخص هل لديه انتماء داخل بلده غير مهم، ويتم تجاهل من يثيره بل واعتباره شخصا غير مرغوب فيه أحيانا، لأنه أمر الانتماء الداخلي فيه حسابات غارقة في المحلية وفيه بعد شخصي وموروثات أسرية وجهوية، وهو عند غالبهم حتى وإن حدث نقاش عنه فهو مجرد “ونسة جانبية” مثل الحديث عن اسم الكنيسة التي يحضر فيها ترمب – عندما يحضر – قداس الأحد، أو اسم الكوافير الذي تذهب إليه رئيسة وزراء نيوزلندا!
قبل مدة دار نقاش معي في صالون سوداني وفاقي وكنت أظن أنه من السهل أن أقنع بعض المتداخلين أنني مستقل سياسيا لكنني لم اتنازل عن “التوجه الإسلامي العام” مع أنني لم أعد جزءا ولا عضوا فيما يسمى بالحركة الإسلامية بكل فروعها أو أي تنظيم آخر، أو حزب المؤتمر الوطني أو غيره. بل أتحرك في فضاء أوسع من كل هذا “الدافوري السياسي المحلي” ومع هذا لا شيء يملي على اطلاقا الانسلاخ الفكري عن التوجه الاسلامي العام والتسبيح بحمد العلمانية، والتي لا ازال اعتقد أنها “لادينية سياسية” تحرم المجتمع الذي أعيش فيه من أهم عناصر تكوينه بدلا عن التوظيف الايجابي له. عندما أجد أسئلة غريبة كنت اعتقد أن التوضيح مفيد، ولكن بعد هذه الطرفة التي سأحكيها أدركت أن الخطل في أذن بعض السامعين وليس في حديثي عن بطلان شرط العضوية السياسية للحزب للتعبير عن الافكار الذي بدأ أصلا في سلسلة “هل المؤتمر الوطني حزب فاشل؟” نوفمبر ٢٠١٢ والذي ذكرت فيه:
(… الإجابة عندي أنه فشل في كثير من واجباته فشلا ذريعا بل صار جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل في بعض الحالات، خاصة في “الردة الجهوية” التي كان يرجى منه أن يضع منهجا للتعامل معها. لقد صار المؤتمر الوطني – عبر بعض كوادره – “عالة” على الإستقرار السياسي و”عالة” على الدولة وإقتصادها وأمنها وسببا في “الشروخ الجهوية العميقة”…)
كان هذا قبل سبع سنوات من التغيير الذي بدأ في ديسمبر ٢٠١٩ وقد جائني تذكير بالمقال من أحد الأصدقاء والذي ذكرني أنه انتقدني حينها، قائلا “كان يستحسن عدم نهش الحزب والخروج بأدب”.
المهم .. المقال موجود بتاريخه بمجرد النقر على قوقل، وقبله في ٢٠١١ مذكرة إصلاحية معلنة للمؤتمر الوطني ورئيسه، ولذلك هو خروج بدأ بمحاولات إصلاح ومراجعات، وليس قفزا سياسيا للحصول على بريق وضجة.
الطرفة التي قصدتها أنه جاءت بعد هذا مع صديقي سيرة المحبوب عبد السلام فقال لي “هل تعتقد أن المحبوب يمثل التيار العلماني في الإسلاميين؟”.
المفاجأة أن من كان ينتقدني كفر بالانتماء التنظيمي والتوجه الفكري معا، وانا لازلت أجادله أنه لا تلازم بين الانسلاخ من التوجه الإسلامي العام والارتباط بالمحيط الدولي، اذا كانت هنالك نقاط التقاء حيوية لا يعنيهم دينك ولا فكرك، وقلت له اللهم إلا إذا حديثك عن المحبوب على وزن “الفصيلة النباتية من الأسود، أو الأنواع اللافلزية من الفلزات” كلام لا يستقيم علميا ولكنه يروقني جدا لأنه يؤكد لي أن تصنيفات الإسلاميين السابقين والحاليين ينتجها خصومهم التاريخيين أو المتأثرين بهم والذين يرون التوجه الإسلامي في الشخص الذي ينتمي إليه صفة أصلية يجب أن تلازمه مثل “الوحمة على الخد” حتى لو قرر هو بكامل وعيه وارادته وتأمله وتجربته مثل المحبوب تركه والسباحة المحترفة في الفكر الانساني الحر.
من جهة أخرى أنا نفسي كتبت من قبل في ٢٠١٥ “أسئلة موضوعية عن الإسلام السياسي” ثم عن فشل الإسلام السياسي، وكتبت بعدها “هل قتل الإسلام السياسي أم مات لوحده؟”، وفسر بعضهم هذا اكمالا للخروج الفكري بعد اكتمال حلقات الخروج الجهير من اي حزب أو تنظيم، وبسبب هذا التوهم توقفت مضطرا من نقد الفكر الإسلامي، لأن النقد يظن فيه البعض محاولة للخروج من التصنيف الإسلامي لمطامع سياسية في “راكوبة الخريف” التي يستظل تحتها مجموعات المتحزبين السودانيين (التقول في حاجة اصلا يطمعوا فيها، في هذا الشغب السياسي!)، وبسبب هذا الوهم أقوم مجددا بالتأكيد على انتمائي، ولذلك وجدت أن نقد الفكر الاسلامي يدخلني في التأكيد والاعلان، وانا اقصد النقد وليس غير ذلك. الأفضل في النهاية الكفاية بما كتبت وإغلاق الباب تماما.
* لدي حاليا ثلاث نقاط اجد نفسي مكتفيا بها في التعريف عن نفسي، لمن أراد التعامل معي.
أولا: الحرية الاقتصادية هي التي تقود للحرية السياسية والاجتماعية بصورة أفضل وأكمل، وأن من أراد الديموقراطية فعليه بالاقتصاد الحر أولا، وليس الكفاية بحملات المناصرة للحقوق السياسية والحريات الاجتماعية لأن زيادة الشريحة المنتجة التي تحقق ما يسمى بالاستقلال المالي هو الذي يجعل من المجتمع قوة قادرة على التغيير وليس إقامة مهرجانات خطابية عن حقوق الإنسان. ولذلك من ينتمي للاقتصاد الحر وينحاز له بوضوح هو صديقي ولو كان من أي بلد او انتماء، ومن هو غير ذلك “عليه يسهل وعلينا يمهل”، ونتلاقى في ساعة خير.
بسبب الانتماء للاقتصاد الحر أيدت كل قرارات التحرير وتحويل الدعم بمقالات واضحة باللغتين العربية والانجليزية من ٢٠١٣ إلى ٢٠٢٠ رغم اختلاف الحكومات وتوجهاتها، لأن الاقتصاد الحر هو ركيزة أساسية بالنسبة لي.
ثانيا: أنا أحمل قناعة فكرية عن “التوجه الإسلامي العام” ومع هذا لدي نقد مكتوب ومنشور عن “الإسلام السياسي” تحديدا. هل هذا تناقض؟ لا أبدا! لأن الاسلام السياسي انتهت دورته التاريخية اصلا ومات بعد شيخوخة طويلة ومملة، ولم يقتله أحد بثورة ولا بانقلاب، لكن هذا لا يعني نهاية “المصدر” وهو “التوجه الإسلامي العام”، تماما مثلما لا يعني وفاة الفكر البعثي العربي نهاية التوجه الثقافي العروبي، ولا يعني وفاة الشيوعية نهاية التوجه الاشتراكي.
ثالثا: أنا لا انتمي لأي حزب أو تنظيم، لكن من باب التنبيه، سأبقى أنصح، من أراد قمع أو حظر اي تنظيم – اسلامي أو علماني – ظنا منه انه يقمع الفكر الحر فإنه مثل من يحارب الفكر العروبي بإغلاق الجامعة العربية ظنا أنها تمثله، أو يحل الاتحاد الأفريقي لفتح أبواب القارة للاستعمار. بينما يرى العروبيون ان الجامعة العربية مجرد نادي رؤساء وملوك لا قيمة له، ويرى بعض الافريقانيين أن المنظمة الإفريقية مجرد ذراع للاتحاد الأوربي في القارة السمراء، لأن نصف ميزانية البرامج في الاتحاد الأفريقي من الاسياد السابقين.