✍مكي المغربي
فكرت كثيرا في تطبيق مبدأ “قوة لبنان في ضعفه” للراحل الشيخ بيار الجميل على الحالة السودانية. ومبدأ بيار الجميل والذي ينسب أحيانا إلى الرئيس شارل الحلو – في التطبيق – يعني أن الانقسام الطائفي يمنع الانفراد وبالتالي يمنع الديكتاتورية ويرسخ للديموقراطية التعددية خيارا وحيدا لا بديل له ويبقى التحدي هو تطويرها لا حمايتها من الانقلابات.
بل يذهب شراح المبدأ إلى أبعد من ذلك باعتبار أن الانقسام يتحول أحيانا إلى استقطاب خارجي فيصبح النفوذ الغربي وتحديدا الأوربي-الفرنسي ظهيرا للموارنة بينما يجد أهل السنة دعما من الدول العربية السنية وتحديدا السعودية، وتقف إيران خلف حزب الله والشيعة وهكذا، وهاهنا الحل، إذا أحسنت النخب السياسية استثمار هذه الحالة فإن النفوذ الخارجي يمكن أن يتحول إلى تنافس سياسي في شكل استثماري اقتصادي بدلا من الانزلاق في تصفية الحسابات الخارجية وبذلك يتحول الضعف إلى قوة، والانقسام إلى انتعاش اقتصادي.
فكرت مليا في البرلمان المرتقب وقلت لم لا يفكر السودانيون في حد أدنى بدلا من تمرير أجندات أجنبية متقاطعة تحطم عظم السودان وتدخله في طور التقسيم الجغرافي الثاني بعد انفصال الجنوب، أو تدخله في حرب مليشيات وتكاثر أميبي جديد للحركات المسلحة بدلا من الدمج والتوحيد مع الجيش.
هل يا ترى سيتعقل بعضهم ويدرك أن من يحرضه من الخارج ويوهمه أنه السودان له وحده لو استطاع القضاء على الفلانيين أو العلانيين ثم يكتشف أنه وبمجرد دخوله في المعركة سيتواصل ذات الطرف الخارجي – عبر واجهة أخرى – مع الضحايا قائلا لهم أنني وحدي استطيع حمايتكم من فلان أو علان .. واطرحه لكم جانبا مقابل كذا وكذا.
وهكذا .. تلعب الدول الكبرى بل و”الصغرى الثرية” مع الداخل بالاحتواء المزدوج والمتعدد وبسياسة فرق تسد، بينما تتعامل النخب والزعامات السودانية بالاذعان الكامل للطرف الخارجي الذي لا تحصد من العمل معه اي ثمرة من الثمرات الكثيرة الموعود بها، والنتيجة انظروا للنخب الان .. بالرغم من الضجيج العالي يندر جدا أن تجد منهم عددا في أصابع اليد قد جمع بين النجاح السياسي والاجتماعي والمالي .. بل بعضهم من الأسماء الكبرى تجده يشارف على الستين أوالسبعين وقد حصد اليباب في نفسه أواسرته، ولن يسلم من تقلبات الدهر اطلاقا .. بل قد لا يسلم من صراع مراكز القوى داخل جبهته أو حزبه أو حركته.
هل يا ترى يمكن أن يطبق البرلمان الموعود أو حتى “مجلس الشركاء” أو أي “عقل جماعي” مبدأ القوة في الضعف ويتحول إلى منطقة تذويب للصراعات وتفكيك القنابل أم يتحول هو نفسه إلى مصنع للصراعات والقنابل المدمرة.
هل سيكون منطقة محايدة لتقريب وجهات النظر أم حلبة صراعات تجهز على ما تبقى من بريق الانتقالية ويتسبب ان يكفر الجيل الجديد تماما بكل الشعارات والافكار التي رفعها وجدد الأمل فيها التغيير الثوري، ليصبح البرلمان هو سبب ما يسمى بالثورة المضادة الحقيقية وليست الفزاعة!
كثيرا ما أردد ان الرهان الذي يدور في المخيلة الشعبية أحيانا عن ظهور نميري جديد .. قوة وحسما وصرامة من قلب المؤسسة العسكرية إنما هو رهان تجاوزه الزمن والتاريخ والجغرافيا، وعليه اذا فشلت المؤسسة العسكرية في إنتاج ديكتاتورية فالمدنيين سيكونون أفشل.
لا تستطيع الحكومة الحالية ولا حتى لو جاءت أخرى أن تستمر في أي نهج شمولي .. لانه وبكل بساطة هنالك مطلوبات للشمولية ولن يتوفر ولا عشر معشارها لهذه الحكومة ولا اي حكومة مقبلة.
في الشمولية يجب أن يكون هنالك حزب واحد أو محوري، وهذا غير موجود، ويجب أن تكون الأجهزة الأمنية نسخة من الحزب وأن تكون “مصمتة” من الداخل وصلبة من الخارج وهذا بعيد المنال تماما، ويجب أن تكون هنالك حزمة من القوانين القمعية وجدار من التعتيم، وهذا حتى لو اجتهدت الحكومة الحالية في توفيره سيصيبها بشرخ محلي ودولي.
باختصار، طريق الشمولية وعر ويحتاج إلى سيارة دفع رباعي عملاقة وليس هكر متهالك هو ذاته يحتاج إلى صيانة عاجلة.
لذلك درب السلامة للحكومة الحالية هو التعايش مع واقعها والرضا بقدرها التاريخي.
لا اعتقد أن المشكلة في تحديد ما هي الخطوة المقبلة “إصلاح سياسي” أم “مصالحة سياسية” لأنه وبكل بساطة وبدون “برجوازية فكرية” المصالحة يمكن أن تكون خطوة للإصلاح ويمكن للإصلاح أن يكون هو ضمانة للمصالحة ألا تكون مجرد صفقة هشة ومؤقتة.
المشكلة التي لم تجلس حولها النخب وتبرم اتفاق جنتلمان وتطوره إلى مباديء صارمة تكمن في المنهج السياسي لإدارة الصراعات الداخلية والاجتهاد في تحويل حالة الاستقطاب العميق الحاد الى موسم تنافس مفيد للسودان ولجميع الأطراف.
صراحة وبكل أسف لا توجد مؤشرات أن المصالحة أو الإصلاح يمضيان في هذا الاتجاه، كلهم يبيت بنية تجاه الآخر.
أيضا هنالك الغام جديدة لا يعرفها حتى بعض المحنكين الذين لحقوا بالمعترك السياسي مؤخرا في مواقع مؤثرة، هنالك تطورات في المجال القبلي والأهلي وصراعات كانت مكتومة ومؤجلة لأن النظام السابق يتعامل معها بالتسكين وقد انتهت صلاحية المسكنات ولا يوجد دواء بديل في صيدلية النظام الحالي .. ولا توجد جهة قادرة على التنبؤ بالخطوة المقبلة، ستحدث أمور غير تقليدية ولن تفلح معها الحلول التقليدية، وقراءة دفاتر الأنظمة السابقة لن تفيد هذه المرة.
على صعيد الجماعات الإسلامية والفكر الديني عموما .. قد يظهر فجأة حزب شيعي قوي، وحزب بل أحزاب سلفية وصوفية لا ترغب في ان تعبر عنها واجهات قديمة عن طريق استيعاب الحركة الإسلامية القديمة للتيار السني السلفي والحزب الاتحادي الذي يستوعب الصوفية تقليديا.
والقائمة تطول وتطول .. و لا توجد حصانة من العبث الخارجي البتة في هذه المناطق التي يعتبرونها – وبكل أسف – في عمق مجالهم الحيوي الإستخباري ويجوز لهم أن يفعلوا فيها ما يريدون وبدون أخبار حلفاؤهم .. داخليا ستكون هنالك معاذير وشماعات جاهزة لكل الظواهر الجديدة وتتنصل جميع الأطراف عن المسئولية.
أيضا تعتبر النخب القادرة على الحراك الان ولديها خبرة ومراس .. شخصيات منهكة بالمعارك الداخلية والشجون الصغرى كما يقول عمر الدقير، وهم على أعتاب الستين أو تجاوزوها، وتتناوشهم العلل والاخفاقات الخاصة، ومحاطون في ذات الوقت بحركة رفض شبابي، وبينما هم يجتهدون دوما في الإخراج السياسي المقنع للرافضين ينفجر الامر إذ ليس كل مرة تسلم الجرة .. يمكن أن يدخلوا في رادار الرفض وينالون نصيبهم من الرصد والتربص الذي يتطور بدون سبب مقنع أحيانا أو لسوء الحظ إلى حالة “الشيطنة” بدون أي مقدمات.
القصة ليست إصلاح أو مصالحة، لأن التلاعب بالموضوعين وارد.
القصة ليست إنهاء أو تسكين الخلاف، المطلوب هو الاتفاق على طريقة ومنهج أدارة الخلاف.
اتفاق جنتلمان غير مكتوب ولا مدون، ولست مثاليا لأقول أنه محروس بكلمة شرف، بل هو محروس بالقناعة المشتركة، أنه يمكن تحقيق مكاسب أكثر وتفادي خسائر ماحقة وكارثية بأعمال مبدأ “القوة في الضعف”!