

أ.د. محمد حسين أبوصالح
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن الآن في مفترق طرق: إما أن نقرأ البيئة الاستراتيجية بشكل عميق ونستوعب ما ظل يجري على الساحة الوطنية منذ الاستقلال لننفذ نحو حلول مستدامة تمكن من تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح وتفادي وتقليل أكبر قدر ممكن من المهددات والمخاطر، أو أن نخضع للابتزاز وتضيع قيمة النصر العسكري ونهدر دم الشهداء والتضحيات التي قدمها الشعب .. لتوضيح ذلك، أرجوا المرور الهادي من خلال النقاط المختصرة أدناه:
١. من المتفق عليه أن السودان يقع في مسرح صراع استراتيجي دولي بالغ الجدية في الإقليم، يشمل الموقع الجغرافي والساحل البحري وموارد الطاقة والمعادن الاستراتيجية والصناعية وموارد الغذاء من أرض ومياه بجانب قضايا الصراع الثقافي العقدي.
٢. ظل السودان يواجه هذا الصراع منذ الخمسينات دون رؤية استراتيجية شاملة تؤسس لأدوات وسياسات وقرارات وتكتيكات مناسبة للتعامل مع هذا الصراع.
٣. غياب ذلك قاد لاستخدام عدد كبير من أدوات الصراع ضد البلد، تجاوزت الـ ( 32 ) منها ( علم صناعة الأزمة ( Crisis Industry )، الفوضى الخلاقة ( Creative chaos )، سياسة خط قوس الأزمة، العقوبات السياسية والاقتصادية والتقنية، مصيدة الديون، استلاب الإرادة عن طريق دعم وتمويل بعض التنظيمات السياسية وكثير من التنظيمات المسلحة، استلاب الإرادة عن طريق الملفات الحمراء وصناعة القيادات ، أدلجة القبيلة، توجيه الرأي العام، المخدرات .. إلخ ).
٤. النتيجة لكل ذلك هي هشاشة الساحة الوطنية التي تمثلت في ضعف مُخِل للساحة السياسية واختراق فاضح لكثير من التنظيمات السياسية والتنظيمات المسلحة والتنظيمات المجتمعية والأهلية، وغياب للعقل الاستراتيجي الجمعي، صراع سياسي لا يفرق في كثير من جوانبه بين المصالح الحزبية والمصالح الوطنية ومقتضيات الأمن الوطني، الشئ الذي مهّد لتنامي الشراكة الخبيثة بين المال والسياسة والبندقية والتي تديرها دول معادية لها أجندات في السودان.
٥. كل ذلك أدى لأضرار بليغة تمثلت في تعطيل عمليات تحقيق التنمية الطموحة التي تناسب موارد السودان والفرص المتاحة له، واستمرار تهديد الأمن واستمرار لحالة عدم الاستقرار المتمثل في استمرار الحروب منذ تمرد توريت انتهاء بحرب الخرطوم وعشرات الحوارات والاتفاقات، وصولاً لوضع سياسي واجتماعي واقتصادي هش ونقص كبير للإيرادات الحكومية وتنامي الفقر والعطالة وتدهور الخدمات مع ضعف الإرادة الوطنية الموحدة، في ظل توقعات باندلاع حرب عالمية في الإقليم تحمل معها تناقضات أطراف الصراع في الإقليم، والتي يلعب كل منها لصالح كروته ويسعى لتسخير الأطراف الإقليمية لصالحه.
ماذا يعني هذا:
١. يعني تحقيق النتيجة المبتغاة من وراء كل تلك الاستراتيجيات المضادة التي ظلت تعمل منذ سنوات، ألا وهي وضع الدولة في موطن القابلية للابتزاز والخضوع، عندها تكون مواردنا الطبيعية ومزايانا الجغرافية على البحر الأحمر عرضة للاستغلال والنهب، بل ربما ينشأ تهديد وجودي للدولة وتهديد لوحدة شعبها وأراضيها.
٢. أن استمرار الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل شراكة المال والسياسة والسلاح، يعني إمكانية استمرار تهديد السودان واستلاب إرادته وربما بأدوات ذكية هذه المرة تشمل تأسيس تنظيمات ذكية واستخدام أدوات الحرب الذكية، وهذا يعني أن تحقيق النصر العسكري يمثل خطوة وليس حلاً متكاملاً للمشكلة.
٣. أن النجاح في إدارة المعركة العسكرية إذا لم يتبعه نجاح في إدارة المعارك الناعمة، يعني ضياع النصر العسكري ويكفي دليلاً على ذلك سلسلة الانتصارات العسكرية للجيش منذ الاستقلال دون أن يتبعها نجاح استراتيجي في المستوى المدني، والنتيجة هي انفصال جزء من الأر ض واستمرار حالة عدم الاستقرار واستمرار حالة التهديد الأمني.
طريقين لا ثالث لهما:
في ظل هذه الظروف يتجه البعض نحو الداخل مع إهمال الخارج، وهذا ترتيب لن يقود لحل ناجع لإغفاله الأوضاع على الساحة الدولية، بينما يلجأ البعض نحو الخارج، لكن دون ترتيبات استراتيجية، وهو بحسب التجارب الإنسانية غالباً ما يؤسس لتحقيق مصالح صغيرة، حيث يمكن أن يرتفع مستوى وحجم المصالح كلما زاد مستوى حجم التنازل عن السيادة الوطنية لكن تظل تلك المصالح المحققة غير استراتيجية وغير متناسبة مع تلكم التنازلات التي يفرضها ضعف الموقف التفاوضي للدولة، وهو طريق يفضي نحو استكمال حلقات الاستعمار الذكي.. ومن السذاجة توقع تحقيق مصالح استراتيجية حقيقية مقابلة في هذا المستوى من الترتيبات، يكفي نموذجاً لذلك الشروط التي تفرض الآن على أوكرانيا وتلك التي فرضت على دول أوربا ودول الخليج وكثير من الدول الإفريقية، وكتلك التي فرضت على تركيا في 1923، والتوقف في حيثيات إقامة قواعد عسكرية في دول الاتحاد الأوربي عقب انتصار الحلفاء.
لذا سيكون هناك طريقين أمام الدولة لا ثالث لهما:
الطريق الأول:
إما الاتجاه نحو الخارج بحثاً عن الدعم والسند والتعاون، لكن دون رؤية استراتيجية مسنودة بجبهة وطنية واسعة ودون عقل استراتيجي ودون دولة مؤسسات، وهذا سيعني أننا وقعنا في الفخ المرسوم ومن ثم تحقيق الغرض الأساسي للمخطط الاستراتيجي المستمر لسنوات طويلة، ألا وهو الخضوع للابتزاز الخارجي بالخضوع لشروط الأطراف الخارجية مع تنفيذ بعض المطلوبات العاجلة وغالباً بثمن غالي، وهذا سيسهم في ضياع مصالح السودان وتفتيت الجبهة الداخلية نتيجة إنجاز توجهات خارجية غير مقبولة داخلياً غالباً ما تناقض فيها المصالح الخارجية مع المصالح الوطنية، وهذا سيقود للتمهيد لنظام غير ديمقراطي، حيث أن سيادة واستدامة المصالح والأجندات الأجنبية الضيقة المبلورة عبر هذا الترتيب الهش، تتطلب سيادة أنظمة سياسية هشة وخاضعة وإرادة وطنية ضعيفة، والتجربة الإنسانية تشير إلى ذلك .
الطريق الثاني:
وهو خيار الاستقواء بالداخل مع ممارسة النضال الناعم، ومن ثم الخروج إلى الخارج وفق رؤية استراتيجية، وهو الخيار الأمثل لا سيما ونحن نعيش لحظات يحقق فيها الجيش انتصارات عسكرية مسنوداً بجبهة شعبية ضخمة، وهذا يتطلب:
١. الإدراك بأننا في معركة وطنية لا فيها حاكم ولا معارض وإنما وطن وبس.
٢. الإدراك بأنه لا توجد مجاملات في الصراع الدولي، فإما أن تكون ذكياً وقوياً وتقوم بفرض شروطك أو أن تبدي ضعفك وتستسلم.
٣. الإدراك بأن أهم مؤشرات قوة الدولة هو وجود رؤية واحدة لشعب بأكمله، وهي النظرية التي عبرت بها الصين وهي في حالة الانطلاق في نهاية الخمسينات حيث التشوهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية آنذاك.
٤. الاتجاه نحو الداخل من أجل بناء كتلة وطنية وفق أسس استراتيجية تقرأ مكامن قوتنا بنفس قدر قراءتنا لمكامن ضعفنا الوطني، كما تقرأ مكامن ضعف خصومنا وحاجتهم للسودان بنفس قدر معرفتنا لنقاط قوتهم ومستوى التهديد الممكن أن ينجم عنهم، وذلك من خلال :
▪️تأسيس العقل الاستراتيجي للدولة كمنصة للتفكير الوطني ولحشد المعرفة والابتكار والفكر السوداني، يتم من خلالها توحيد كل حكماء وعلماء خبراء ومبتكري ومبدعي السودان، لتشكل السند المعرفي للدولة والحاضنة الفكرية لها.
▪️بلورة السند الشعبي وبلورة الإرادة الشعبية وذلك بالتوافق على ميثاق سوداني ذو عمق استراتيجي ورؤية استراتيجية شاملة يتم عبرها إدارة حوار استراتيجي نتمكن عبره من استخدام كافة كروتنا الاستراتيجية والتي ظلت معطلة بفعل السلوك الاستراتيجي والتكتيكات المضادة.
▪️تجهيز المسرح الوطني من خلال مرحلة تأسيس تشمل الدخول في إدارة عمليات التعافي الوطني، مرحلة تأسيس تتجاوز الإنتماءات الجزئية ( السياسية والإثنية )، ترتفع من التكتيك نحو الاستراتيجي، والارتفاع نحو قامة الوطن مع ممارسة سلوك وفعل سياسي راشد وحكيم وخطاب سياسي يبلور التحدي الوطني ويرتقي بالوعي والهم الوطني ويعزز الإنتماء الوطني، وخطاب سياسي وإعلامي يزرع الأمل ويوحد المشاعر الوطنية وصولاً لكتلة وطنية صلبة خلف الرؤية والمصالح الوطنية.
▪️تشكيل سلطة مؤهلة لإدارة المعركة الناعمة بعيداً عن المجاملات تتكون من خبراء وطنيين محايدين من أصحاب الجدارة المهنية والأخلاقية، المدركين لطبيعة الصراع الاستراتيجي الدولي وطبيعة أدوات الحروب الذكية.
▪️تعزيز دولة المؤسسات بالمستوى الذي يحمي القرار الوطني الاستراتيجي ويؤسس لسيادة المصالح الوطنية.
▪️استيفاء ترتيبات استراتيجية خارجية تشمل الدخول في عمليات لإدارة التبادل الاستراتيجي دولياً وربط المصالح الاستراتيجية إقليمياً ودولياً مع استخدام استراتيجيات الموقع الاستراتيجي ( دبلوماسية الجيوبوليتيك ) من خلال عمليات الإدارة الذكية للموارد الطبيعية والمزايا الجغرافية، والتي تنطلق من خلال ثغرات وتناقضات أطراف الصراع على الساحة الدولية وتناقضات المصالح الدولية والتطورات في أوضاع التوازن الدولي والتحولات الكبيرة في أدوات الصراع والتحكم الدولي .
9 أبريل 2025