
حينما انطفأت شاشات الحواسيب وأُسكتت شبكات الاتصالات في السودان مع اندلاع الحرب، أدرك الناس أن التكنولوجيا لم تعد رفاهية، بل ضرورة وجودية لبناء المستقبل. هذه الحقيقة ليست بعيدة عما واجهته كوريا الجنوبية قبل عقود، حين خرجت من حرب مدمرة في خمسينيات القرن الماضي، باقتصاد منهك وبنية تحتية معدومة وشعب يبحث عن أمل. حينها أتخذ قادتها قراراً مصيرياً “أن تكون التقنية سلاح البناء.
منذ ذلك الحين، رسمت كوريا مسارها بخطوات واضحة:
• سنّت القوانين وأنشأت المؤسسات لضبط مسيرة التحول.
• أنفقت على البنية التحتية حتى وصل الإنترنت إلى كل قرية.
• رقمنة أهم الخدمات الحكومية السجل المدني، الضرائب، الجمارك، والمشتريات.
• نقلت الحكومة من المكاتب إلى هواتف المواطنين عبر خدمات رقمية وبيانات مفتوحة.
• ثم قفزت إلى المستقبل بتطبيقات الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين والحوسبة السحابية.
النتيجة: حكومة ذكية وشفافة، وتعمل بكفاءة ، وفّرت مليارات الدولارات ورفعت ثقة المواطن. اليوم، كوريا الأولى عالمياً في انتشار الإنترنت فائق السرعة، ومن روّاد شبكات الجيل الخامس، وضمن أفضل خمس دول في مؤشر الحكومة الإلكترونية للأمم المتحدة.
هذه التجربة ليست بعيدة عن السودان. فقد تعاونت كوريا الجنوبية بالفعل في إعداد الخطة الإستراتيجية للحكومة الإلكترونية في السودان 2016–2020م عبر وكالة “نايبا” (NIPA)، وتعاونت مع السودان من قبل في مجالات التعليم والزراعة والصناعة.
السؤال اليوم. هل يمكن أن يصبح السودان “كوريا جديدة” في إفريقيا؟
الإجابة: نعم، إذا جعل التحول الرقمي مشروعاً وطنياً لا شعاراً مؤقتاً، وإذا التزم بقرار سياسي شجاع ورؤية طويلة المدى تستثمر طاقات شبابه وخبراته، وتبني شراكات مع العالم.
فكما نهضت كوريا من تحت الرماد لتصبح قوة رقمية عالمية، يمكن للسودان أن يسلك نفس الطريق بثقة وإصرار.
في العمود القادم من آفاق رقمية سنتوقف عند تجربة إستونيا الرائدة، ونتعرف على نموذجها الشهير (X-Road) أو طريق المعلومات السريع، الذي شكل عصب التحول الرقمي هناك. وللسودان تجربة تعاون سابقة مع إستونيا يمكن البناء عليها. وسنواصل عبر هذه السلسلة استعراض نماذج أخرى قد تسهم في صياغة نموذج سوداني قادر على تجاوز الحاضر والانطلاق نحو المستقبل.
ومن رحم الأزمات تولد أعظم النهضات.