تمور الساحة السودانية هذه الأيام بحراك سياسي غير مسبوق جُلّه في شكل مبادرات تتقدم بها تحالفات سياسية متنوعة. بعض هذه المبادرات يتبنى العودة إلى الوثيقة الدستورية كأساس لإعادة تشكيل مؤسسات الإنتقال مع إجراء تعديلات عليها (مجموعتي الحرية والتغيير) وبعضها يتبنى العودة إلى دستور 2005 الإنتقالي مع إجراء تعديلات عليه (مجموعة نداء أهل السودان للتوافق الوطني)، والبعض يتبنى إعلاناً سياسياً جديداً تُبنى عليه وثيقة دستورية جديدة تجيزها وتعتمدها “القوى الثورية” والمدنية (توصيات ورشة المحامين).
القضايا التي يجري التركيز عليها في هذا الحراك السياسي ليست كثيرة، وعنوانها الأبرز هو الأساس الدستوري الذي يُنظم العلاقة بين المكون العسكري وبقية القوى المدنية من جهة وبين القوى المدنية مع بعضها البعض وداخل الفئة الحاملة للسلاح (علاقة الدعم السريع وحركات الكفاح المسلح مع القوات المسلحة )، وتتشكل وفقاً لذلك الأساس الدستوري الحكومة والبرلمان وبقية الأجهزة الإنتقالية، وظاهر المشكلة يبدو في أن البعض من القوى المدنية يرى أن يكون شأن الإنتقال حصرياً بين مَن تسمي نفسها “القوى الثورية” وأن يتم البتُّ بواسطتها في كل قضايا الإنتقال، عسكريها ومدنيها، حتى تلك التي يتعدى أثرها الفترة الإنتقالية، بينما يرى آخرون أن الشأن السوداني يهم كل السودانيين ولا ينبغي عزل أحد من المشاركة فيه بالرأي.
لكن حين النظر بعمق في ما وراء المقترحات التي يجري عرضها والتي تقدمت بها مختلف القوى السياسية سنكتشف أن للخلاف وجهاً آخر، خلافاً لما هو ظاهر في المبادرات والمواقف، وسنحاول هنا التعرُّف على الوجه المخفي للخلاف من خلال البحث عن كلمات مفتاحية تخفي وراءها العقدة التي تكاد تستعصي على الحل، بأمل أن تقودنا تلك الكلمات إلى فك شفرة الأزمة السياسية المستفحلة منذ أبريل ٢٠١٩م.
أولى الكلمات المخفية في حوارات النخبة السياسية هي كلمة الأمان، فجميع القوى المدنية والعسكرية خائفة على مستقبلها وتبحث عن الأمان، سواء الأمان الشخصي أو الأمان الخاص بالكيان الذي تمثله. البعض منها خائف من عودة المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية إلى ساحة الفعل السياسي، والبعض الآخر خائف من أن يثير غضب القوى الخارجية التي أوصلته بدعمها إلى ما وصل إليه ولهذا تجده يجتهد في شيطنة الآخر المختلف لأنه يحس بعدم الأمان في وجوده، أو لأنه يعتقد أن في التماهي مع رغبات الكفيل يضمن ألا يفقد دعمه. والمؤتمر الوطني نفسه ومعه بقية التيارات الإسلامية والوطنية التي تمّ عزلها ترى أنها تعرضت لمحاولة إقصاء متعمد للقضاء على مستقبلها السياسي ولا شك أنهم يريدون أن يأمنوا على مستقبلهم. ويبدو واضحاً أن لا أحد من أصحاب المبادرات خاطب هذه الجزئية.
أما الكلمة الثانية فهي الطمع، إذ الجميع – وخاصة القوى الثورية – إما طامع في استعادة ما فقده من المكاسب أو في المحافظة على مكاسبه الحالية. ولئن كانت هذه الجزئية ترتبط بقضية الأمان أيضاً فإن معالجتها تحتاج إلى مخاطبة المطامع المشروعة والمعقولة، فحركات الكفاح المسلح التي وقعت على سلام جوبا وعموم مجموعات الجبهة الثورية ترى أن أهم إنجازاتها ليس هو تحقيق السلام وإنما هو تثبيت قدمها ضمن آلية صنع القرار في الخرطوم، ولم ألحظ أن أحداً من أصحاب المبادرات المطروحة خاطب هذه المطامع المشروعة أو أعارها الإهتمام الكافي !!
أما الكلمة المفقودة الثالثة فهي الثقة وهي الأخطر، إذ أن الجميع لا يثق في الجميع، بشكل مطلق أو هو ضعيف الثقة فيه، فعلى صعيد القوى المسلحة نجد أن الجيش لا يثق بشكل كافٍ في الدعم السريع والعكس صحيح، وحركات الكفاح المسلح لا تثق في بعضها البعض ولا في الدعم السريع ولا في الجيش بشكل كافٍ. وعلى صعيد القوى السياسية والمدنية حدث ولا حرج، ففصائل الحرية والتغيير التي قدمت نفسها باعتبارها أوسع تحالف سياسي في تاريخ السودان هي الآن شذر مزر، وحتى تجمع المهنيين ولجان المقاومة أصبح كل فريق منها يشتم الآخر ويتبرأ من مواقفه كلما سنحت له الفرصة. وإذا فُقدت الثقة، فُقد الإحساس بالأمان وكثُرت المطامع.
إن المدخل الصحيح لتجاوز الخلافات الناشبة بين القوى السياسية لا يكمن فقط في محاولة توحيد المبادرات السياسية، وإنما أيضاً في مخاطبة مخاوف القوي المختلفة، يمينها ويسارها، ومطامعها، وطمأنتها على تأمين مستقبلها ونزع مخاوفها في هذا الصدد، وهدم حواجز الشك بينها وبناء حواجز الثقة بدلاً من ذلك. وما لم تتصدّ جهة لهذه المهمة الجليلة فستبقى هذه القوى تدور حول حمى التوافق دون أن تلج إلى فناء داره.