صادف أمس الجمعة 5 أغسطس 2022 الذكرى الرابعة والثلاثين لكارثة السيول والأمطار التي اجتاحت البلاد يوم الجمعة 5 أغسطس 1988، مصادفة غريبة نفس التاريخ في الشهر ونفس اليوم في الأسبوع!
في ذلك التاريخ البعيد هطلت أمطار استمرت بدون توقف من الثامنة مساء الخميس 4 أغسطس وحتى الثامنة من صبيحة يوم الجمعة 5 أغسطس 1988، أمطار لم تشهد لها البلاد مثيلاً من قبل ولا من بعد حتى اليوم، وقال عنها المرحوم الدكتور عمر نور الدائم وزير المالية حينذاك حين احتشد الوزراء والنواب بمكتبه طالبين المال لبناء ما تهدم (أعمل ليكم شنو كان مطرة الموسم كله نزلت في يوم واحد). فاق هطول ذلك اليوم 100 ملم، في حين معدل الأمطار السنوي للخرطوم في الموسم كله 70 ملم، تزيد أو تنقص قليلاً.
حينذاك كنت في موقع عملي الليلي بالخرطوم، ومع دخول وقت صلاة المغرب لاحظت أن هطولاً خفيفاً للأمطار قد بدأ، خرجت وتطلعت للسماء فكان المنظر رهيب جداً، لقد تعودنا أن يكون البرق قبلي منذراً بهطول الأمطار، لكن ويا للعجب كان البرق يشتعل من النواحي الأربعة، وأصوات الرعد تزمجر من بعيد بصوت عميق ورهيب، بدأ هطول الأمطار يشتد شيئاً فشيئاً، لكنه لم يكن هطولاً عاصفاً، ولم ترتفع أصوات الرعد لتنبئ بسقوط صواعق، كان صبيباً مستمراً دون انقطاع ودون أهوية.
المكاتب الحكومية بمدينة الخرطوم اجتاحتها المياه عن بكرة أبيها، وكان محزناً تلف مئات المراجع العلمية القيمة من مكتبة كلية الطب جامعة الخرطوم لأنها كانت موجودة بمستوى دون سطح الأرض بمبنى القبة بالكلية.
انهارت منازل المواطنين المبنية بالجالوص والطوب الأخضر، الحارة 14 والحارة 9 بمدينة الثورة بأمدرمان مسحت مساكنها ما عدا القليل، وانهارت مباني المدارس والمراكز الصحية والشفخانات لأنها مباني قديمة جداً من زمن الانجليز. البنية التحتية في كل السودان تأثرت بالسيول والأمطار.
كباتن الطائرات التي وصلت للخرطوم بعد توقف الأمطار كانوا يقولون انهم يشاهدون منظراً عجبا، كل السودان مغطى بالمياه، ولولا أن مدرج مطار الخرطوم كان مرتفعاً ويظهر لهم كشريط أسود لعادوا أدراجهم لمطارات المغادرة.
تم ابلاغ وزير الداخلية حينذاك السيد/ سيد أحمد الحسين ورئيس مجلس الوزراء حينها السيد/ الصادق المهدي بالموقف، وهيأت قيادة الجيش طائرة هليكوبتر صعد عليها عدد من الوزراء ومحافظ الخرطوم، طافت على ولاية الخرطوم، وفور عودة الوفد واجتماعهم برئيس مجلس الوزراء تم اعلان حالة الطوارئ. وتم طلب المساعدة من الدول الشقيقة والصديقة.
بدأت طائرات الإغاثة تهبط في مطار الخرطوم من السعودية والكويت ومصر والجزائر وسوريا واليمن وغيرها. كان دور السعودية مميزاً حيث أنشأت جسراً جوياً ضخماً، تهبط طائرة هاركليز كل ساعتين فيها خيم مزودة بمولدات كهربائية وبطاطين وأرغفة خبز ساخنة.
السعودية لم تكتفي بالجسر الجوي الذي نظمته لإغاثة السودان، لكنها عن طريق البنك الإسلامي للتنمية جدة تكفلت بإعادة بناء المدارس والمراكز الصحية بكل أنحاء السودان، بتكلفة تجاوزت مئات الملايين من الدولارات. هذه يد بيضاء من السعودية وملوكها وشعبها تستحق الشكر والامتنان من قبل شعب السودان.
أربعة وثلاثون عاماً قد مضت على ليلة وأيام الطوفان الرهيبة، لكن مشاهدها ما زالت راسخة بالذاكرة.