يحتاج المحللون السياسيون أن يُعيدوا قراءة المشهد السياسي في السودان بين حين وآخر، لكي يقدموا لمتابعيهم وصفاً أقرب للدقة لصورة مايحدث، ويقرّبوا لهم فهم ما يجري أمامهم؛ وكأحد المهتمين بهذا الجانب يلزمني أن أعترف بأن قدراً كبيراً من الضجيج والغبار جرت إثارتهما منذ أوائل العام ٢٠١٩ بقصد جعل مهمة القراءة والتحليل أكثر صعوبة.
ومنذ ١١ أبريل ٢٠١٩، سعى التحالف السياسي الذي تصدر المشهد وبرز على سطح الأحداث، للانفراد بالساحة وتقديم نفسه باعتباره “الممثل الشرعي الوحيد للثورة”، وبذل – كما تبين بعد ذلك – مساعٍ حثيثة في اتجاهين، الأول عزل بقية “القوى الثورية” التي شاركته فترات “النضال” المختلفة، والثاني الانفراد بشراكة مؤقتة مع المجموعة العسكرية التي أطاحت بالنظام، يضمن خلالها أنه استخدم العصا العسكرية للقضاء على خصومه السياسيين، ولحمايته مما قد يتخذه من قرارات ويقوم به من إجراءات بعرف سلفاً أنها لن تكون محل ترحيب القواعد الشعبية، فإذا ما تمّ له ذلك انقلب على شريكه الجديد!!
والحق يُقال أن تلك القوى السياسية التى أسمت نفسها بقوى الحرية والتغيير، حققت نجاحاً ملحوظاً على الجبهتين، إذ عزلت شركاء النضال السابق وحصرتهم في خانة “قوى الكفاح المسلح”، ووظفت شراكتها مع المجموعة العسكرية في استهداف خصومها السياسيين وحرمانهم من أبسط حقوقهم الدستورية والقانونية، في الوقت الذي تدّعي فيه أنها جاءت لبسط الحريات وحقوق الإنسان وإقامة دولة القانون والعدالة؛ واستمرت هذه المجموعة ترضع من ثدي السلطة لحولين كاملين دون أن تتم الرضاعة!!
وخلال العامين المذكورين ذاق السودانيون الأَمَرّين، وعاشوا ضنكاً من العيش لم يعتادوه حتى في ذروة الحصار الأمريكي على بلادهم، وتزعزع الأمن الشخصي والعام بما لم يسبق له مثيل، وكادوا ينسون مطالبهم في الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة لشدة ما تعمدت السلطة الحاكمة شغلهم عن قضايا الإنتقال الديمقراطي وترتيب أوضاع البلاد ليختار أهلها مَن يحكمهم عن طريق التفويض الشعبي المباشر وصندوق الإنتخابات؛ ولأن هذه المعادلة ما كان لها أن تستمر، فقد حدث ما حدث في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م.
السبب الأساسي في الحال الذي وصلنا إليه هو أن مجموعة سياسية مدنية ادّعت أن الشعب فوّضها لتحكمه من دون انتخابات، وأعطاها الحق في أن تفعل به ما تشاء إلى الأجل الذي تشاء، وأنه لهذا السبب لا خيار أمام الآخرين، مدنيين وعسكريين، سوى أن يسمعوا ويُطيعوا، وإلاّ فلهم الويل والثبور وعظائم الأمور، مِن تتريس للطرقات وتخريب للممتلكات ووقف للخدمات، وتقديمهم للمحاكمات!!
هذا بتقديري هو جوهر المشكلة التي تواجه بلادنا اليوم، ولكي نتعاطى مع هذه المشكلة بشكل علمي، نحتاج أن نعود إلى موضوع “ثورة ديسمبر المجيدة” ونجيب على سؤال مَن أسقط نظام الإنقاذ، وما هو حجم مساهمة كل طرف من الأطراف التي تدّعي ملكية الثورة.
ولكي أختصر على القارئ المشوار دون أن أعيده إلى الوقائع التي كانت ماثله أمامه، أود أن أُذكّر بمثلين سودانيين مشهورين، ففيهما ما يكفي لمعرفة الحال وتحديد الأدوار، المثل الأول يقول: (دُقْ القُراف خليّ الجمل يخاف)، والقراف، بضم القاف أو كسرها، جمع قَرفة، وهي وعاء يُصنع من جلد البقر إذ يُخاط جلدان ليشكلا قرفة واحدة، وغالباً ما تتسع القرفة الواحدة لإردب من الذرة، وقد كان الناس، قبل زمن اللواري والشاحنات، يعتمدون في النقل على الدواب وخاصة الجِمال إذ تُحمّل الجمال بقرفتين لنقل (العيش) من مواقع إنتاجه إلى وجهته، ولأن أهلنا كانوا يدركون معنى الرفق بالحيوان، فقد كانوا يضربون بالسوط أو غيره على القرفة لكي يستحثوا الجمال على السير!!
أما المثل الثاني فيقول على لسان القرادة: (أنا والجمل جبنا العيش من القضارف) .. والقرادة، بضم القاف أو كسرها أيضاً، هي حشرة صغيرة من فصيلة العنكبيات لها ثمانية أرجل وتعيش في البيئات الرطبة وتتغذى على الدماء بعد أن تختار مواضعها من جسم الحيوان بعناية فتغرس فيه خرطومها، وتظل القرادة تمتص من دم الضحية حتى تنتفخ وتتحول إلى “دلمة” من كثرة ما تخنثر الدم فيها، ولهذا يقال أن فلاناً دمه دم دلمة!!
نحن الآن أمام “مشهد ثوري” يتشكل على هذا النحو، فيه قراد وفيه دلم وفيه قراف وفيه صاحب المال الذي اشترى (العيش) وفيه العير التي يُحمل عليها، وفيه من اتخذ القرار من أساسه، وفيه مَن هم لا في العير ولا في النفير؛ وأنا لا أود أن أضع هذه “الطواقي” على رأس أي أحد، لكن إن شاء القراء وضعها على بعض الرؤوس فليس بوسعي أن أمنعهم.
المهم هو أن ينهي السودانيون حدوتة الأبوة الكاذبة للثورة، وأن يعترفوا لكل صاحب دور بالحجم الحقيقي لدوره، وحينها سيدرك الناس مَن خطط للإطاحة بالنظام السابق ونفذ ومَن تمّ استخدامه في المخطط، ومَن كان دوره هامشياً أو كان مجرد وعاء.