✍️ د ياسر يوسف إبراهيم

للروائية التركية إليف شفق في زمنين  روائيين مختلفين نسجت إليف شفق حبكة روايتها العظيمة قواعد العشق الأربعون ، ففي الزمن الحاضر تطل علينا المرأة الامريكية إيلا ( ست بيت ) عادية تقوم بتربية أطفالها وتعتني بزوجها طبيب الأسنان الذي تعرف أنه يخونها ولكنها لا تشغل نفسها بذلك ، ولكي تطرد الملل عن حياتها الرتيبة الموزعة بين المطبخ والأولاد والزوج الخائن تعمل إيلا في وكالة أدبية ، فتكلفها الوكالة بقراءة رواية لكاتب مغمور وتقييمها ، ومن هناك تتحول حياة إيلا رأسا علي عقب إذ تتفجر شلالات الحب من دواخلها إعجابا بالكاتب ، فتثور علي حياتها الرتيبة وتهجر أسرتها لتلتحق بذلك الكاتب حتي بعد أن عرفت أنه مصاب بالسرطان ولم يتبق له الكثير في الحياة الدنيا ، فتبقي إلي جانبه حتي وفاته وإقامة ( الشعائر الجنائزية ) علي جثمانه وروحه عند مرقده الأخير في مدينة قونية التركية …
  في المسار الثاني للرواية وهو الأكثر عمقا وحضورا تنتقل بنا الكاتبة إلي القرن الثالث عشر الميلادي لتناول قصة مولانا جلال الدين الرومي الصوفي الخالد في مسيرة الأزمان ، ولولا أن الروائية إختارت عنوانا جانبيا أسمته ( رواية عن جلال الدين الرومي ) لتخيلت ، أو فلنقل لتمنيت ( عزيزي القارئ) أن تكون الرواية عن شمس الدين التبريزي ، ذلك أن حضور شخصيته الطاغي في الرواية ( وعلي مسرح الحقيقة قبل ثمانية قرون من الآن ) يجذبك إليه جذبا مغناطيسيا يستحيل عليك مقاومة تياره ، كذلك النعاس اللذيذ الذي يزورك ( في إحدي الإجتماعات الرتيبة ) فتطلق لنفسك العنان أن تسافر فيه غير عابئ بالنتائج ..
  تدور أحداث الرواية عن العشق الإلهي كمفهوم روحي لدي المتصوفة ، حيث يلتقي مولانا جلال الدين الرومي الخطيب المفوه ، والأقرب إلي طبقة العلماء الرسميين برفيقه الروحي الدرويش المتجول شمس الدين التبريزي الذي تصوره الروائية وكأنه طيف من عوالم روحية مقدسة كما قال الفيتوري في قصيدته معزوفة لدرويش متجول :-
ويحي 
وأنا أتلعثم نحوك يا مولاي
أجرد أحزاني …
أتجسد فيك
هل أنت أنا ؟
يدك الممدودة أم يدي الممدودة ؟
صوتك أم صوتي
تبكيني أم أبكيك ؟
  بوصول شمس لمدينة قونية تتحول حياة المدينة إلي ملمح آخر حرك تفاصيله شمس برؤاه الفلسفية الروحية الضاجة بالحياة والتأملات العميقة المعاني ، فأوجد بتلك التأملات لكل المهمشين أدوارًا جوهرية في الحياة ( المقامرون ، المومسات ، السكاري والشحاذون ) وهو يصيح في حيواتهم الضائعة تلك بقواعد العشق التي صاغها مع مولانا جلال الدين الرومي في خلوتهم الروحية ( *إن الطريق إلي الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس ، فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيسي ، واجه ، تحد ، وتغلب في نهاية المطاف علي النفس بقلبك ، إن معرفتك بنفسك ستقودك إلي معرفة الله* ) تلك هي القاعدة الثانية من ( قواعد العشق الأربعون ) ..
مدينة قونية في القرن الثالث الميلادي جوهرة المدائن في عالم إسلامي مضطرب تنازعته بربرية المغول من جهة وأطماع الروم من جهة أخري ، إختارتها الكاتبة مسرحا لقصة العشق الإلهي بأبطالها الأسطوريين مولانا جلال الدين الرومي وشيخه شمس الدين التبريزي ، وقونية في ذلك الزمان كأن روح مدينة البصرة في القرن الثاني الهجري قد نزلت بها وحلت في روحها لتبعث فيها تاريخ العشق الإلهي الذي إنبعثت بدايات توهجه من ذاك الزمان الغابر مع الحسن البصري الذي يعتبره كثيرون مرجعا روحيا لتشييد دعائم التصوف الحق الذي يفلسف للعلاقة بين العبد وربه علي أنها علاقة بين الحق والخلق ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ، ومن  هناك تطور مفهوم العشق الإلهي عند الصوفية الكرام ليقرروا ( أن الله هو المحبوب حبا أزليا لا خوفا من ناره ولا طمعا بجنته ) ..
وهو المعني الذي ستدور حوله بعد ذلك كل تجارب العشق الإلهي عبر القرون والعصور ، فهذا إبراهيم بن أدهم من معاصري رابعة العدوية يقول ( إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني به من محبتك وآنستني بذكرك وفرغتني للتفكر في عظمتك) ، وهو نفسه ما تقرره السيدة رابعة العدوية بكل وضوح إذ سئلت عن حقيقة عبادتها فقالت ( ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء ، ولكني عبدته حبا وشوقا إليه )  ..
وبالعودة للرواية فإن الكاتبة إستقت روح نصوصها من ذلك التاريخ المعطر بالجذب والوجد وأنزلته في شوارع قونية المدينة الروحية في وسط آسيا منذ أمد بعيد وما تزال ، ولا تبتعد قواعد شمس الأربعون عن فلسفة أولئك الزهاد والعاشقون الذين صاغوا حبهم لله في تفاصيل حياتهم بعدما اعتزلوا متاع الدنيا  ولذاتها وأخضعوا النفس لرياضة روحية قاسية لتتخلص من شهواتها وتكبرها ، حتي يكون العبد ( ذاهب عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ، ناظر إليه بقلبه ، فينكشف له الجبار من أستار غيبه ، فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن يكن فمع الله ، فهو بالله ولله ومع الله ) ، كما يقول مولانا الجنيد ، وهو ما فعله شمس بمولانا إذ يأمره بالذهاب للحانة وشراء خمر منها أمام أعين أهل المدينة ، ورغم غرابة الطلب فإن المعني الذي يكمن وراءه هو التربية الروحية وكسر تكبر العلماء المزيفون ، وهو ما تقرره إحدي قواعد العشق الأربعون (  *يوجد معلمون مزيفون وأساتذة مزيفون في هذا العالم أكثر من من النجوم في الكون المرئي ، فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة وبين المعلمين الحقيقين ، فالمعلم الروحي الصادق لا يوجه إنتباهك إليه ولا يتوقع طاعة مطلقة أو إعجابا تاما منك بل يساعدك علي أن تقدر نفسك الداخلية وتحترمها . إن المعلمين الحقيقين شفافون كالبلور ، يعبر نور الله من خلالهم* ) ..
بكل دقة وتشويق تنقل الروائية أليف شفق مأساة الرومي بعدما غادره معلمه الروحي شمس إلي جهة مجهولة لمًا رأي تزايد الحاقدين وتآمر المتآمرين عليه من أهل المدينة وفي مقدمتهم علاء الدين إبن مولانا جلال الدين ، علي أن ذلك لم يكن السبب الأوحد لمغادرة شمس متسللا من المدينة ، فقد رأي بعين البصيرة أن مهمته قد إنتهت بعدما نجح في تحويل حياة مولانا جلال الدين من خطيب مفوه وإمام لمسجد المدينة الكبير إلي شاعر كبير في محراب التصوف والعشق الإلهي ، وتذكر رؤيا شيخه ببغداد أن خاتمة رحلته ببغداد لن تكون علي ما يرام ، علي كل عاد شمس إلي قونية وهو موقن بالمصير الذي ينتظره هناك ، ولكنه سار وهو متأسٍ. بإحدي قواعد العشق الأربعون ( *مهما حدث في حياتك ومهما بدت الأشياء مزعجة فلا تدخل ربوع اليأس ، وحتي ولو ظلت جميع الأبواب موصدة فإن الله سيفتح دربا جديدا لك ، إحمد ربك ، من السهل عليك أن تحمد الله عندما يكون كل شئ علي ما يرام ، فالصوفي لا يحمد الله علي ما منحه الله فحسب ، بل يحمده علي كل ما حرمه  منه* ) ..
( لقد قتلوا شمسا ) هكذا يصيح  من كل أعماق قلبه المفطور مولانا جلال الدين بعدما اكتشف جريمة مقتل شمس الدين التبريزي بعد عودته لقونية ، تجازف الروائية بوضع نهاية القصة في بداية الفصل الأول دون أن ينتابها خوف إعراض القارىء عن مواصلة قراءة الرواية بعدما اكتشف نهايتها الفاجعة والمخزنة ، كانت إليف واثقة أن الأحداث التي إصطادت بها إنتباه القارئ المحب للتاريخ والإثارة والتشويق ستجبره علي إنهاء الرواية حتي آخر سطر فيها دون أن يصيبه الملل ، وهكذا دائما هو الحال مع الأعمال  والأحداث الكبيرة في الروايات وعلي مسرح الأحداث ، أفلا نعرف جميعنا خاتمة حياتنا طالت أم قصرت ؟ هل منعنا ذلك من خوض تجربة الحياة بكل ما فيها من مغامرات وأشجان ( *لا تهتم إلي أين سيقودك الطريق بل ركز علي الخطوة الأولي ، فهي أصعب خطوة يجب أن تتحمل مسؤولياتها ، وما أن تتخذ تلك الخطوة دع كل شئ يجري بشكل طبيعي وسيأتي ما تبقي من تلقاء نفسه ، لا تسر  مع التيار بل كنت أنت التيار*  ) من قواعد العشق الأربعون..