
الحركة الجماهيرية ليست طارئة على التاريخ السياسي والاجتماعي في السودان، بل هي جوهره ومصدر شرعيته. منذ لحظة التكوين الأولى، لم تكن الجماهير مجرد كتلة بشرية قابلة للتجييش، بل كانت تعبيرًا حيًا عن الوعي الجمعي، وعن الإرادة الشعبية التي لا تُكسر. ما يحرك الجماهير ليس الخطاب السياسي وحده، بل الإحساس العميق بالعدالة، والانتماء، والكرامة الوطنية. هذه الحركة، التي تشكلت في رحم المعاناة، واجهت التدخلات الخارجية منذ ما قبل الاستقلال، ووقفت في وجه صلف المستعمر، لا بالعتاد، بل بالإرادة، واستطاعت أن تفرض وجودها في لحظات فارقة، وأن تنتزع حقها في تقرير المصير.
لقد شهد التاريخ السوداني نماذج ناصعة للاصطفاف الجماهيري، حينما تحولت الشوارع إلى ساحات للوعي، والمطالب إلى شعارات تتجاوز اللحظة إلى مشروع وطني متكامل. الجماهير أطاحت بأنظمة، وكسرت حلقات القمع، وأسقطت المخططات التي أرادت اختزال الوطن في سلطة أو جهة أو طبقة. في كل مرة حاولت القوى المضادة أن تزرع اليأس، خرجت الجماهير لتعيد تعريف الممكن، ولتثبت أن الشارع ليس مجرد مساحة احتجاج، بل هو مصدر الشرعية، وصانع التحولات.
اليوم، يواجه الوطن مخططًا تفتيتيًا لا يستهدف السلطة فحسب، بل يستهدف البنية الوطنية نفسها، عبر تشتيت القوى الجماهيرية، وتمزيق خطابها، واغتيال وحدتها عبر ثنائيات مصطنعة: مدني وعسكري، مركزي وهامشي، شمالي وغربي، علماني وإسلامي. هذه الثنائيات ليست إلا أدوات في يد المشروع الخارجي الذي يسعى لتفكيك السودان إلى جزر معزولة، كل منها يصرخ وحده، ولا يسمع الآخر. إن اغتيال الخطاب الوطني الجامع هو أخطر ما تواجهه الحركة الجماهيرية اليوم، لأنه يضرب في عمق قدرتها على الاصطفاف، وعلى إنتاج فعل سياسي جماعي.
إن قلب الهرم لا يعني فقط إعادة ترتيب الأولويات، بل يعني إعادة السلطة إلى مصدرها الحقيقي: الشعب. حين يُسمح للشارع بالتحرك، لا بوصفه رد فعل، بل بوصفه قوة مبادرة، فإن التيار الوطني المضاد للمشروع الخارجي يبدأ في التشكل. حين تُفتح المساحة أمام الجماهير لتعيد بناء خطابها، وتستعيد أدواتها، وتُمنح الثقة لتقود، فإن الهرم يُقلب، ويُعاد التوازن إلى المعادلة الوطنية. هذا لا يعني الفوضى، بل يعني أن الدولة تستعيد شرعيتها من خلال الجماهير، لا من خلال التفاهمات المغلقة أو الصفقات العابرة.
وهنا لا بد من التذكير بأن كلمتي “شعب” و”جماهير” ليستا مجرد توصيفات اجتماعية، بل هما المفردتان اللتان ترهبان العدو وتهدمان مخططاته. هما مصدر القوة الحقيقية للدولة، وسندها في مواجهة التحديات. هما من يمنحان الشرعية، ودونهما لا شرعية لأي كائن من كان. من يظن أن بإمكانه تجاوز الجماهير أو الالتفاف عليها، إنما يفتح الباب لانهيار المشروع الوطني برمته.
إن الرسالة التي يجب أن تُفهم بوضوح، هي أن الشارع ليس خصمًا للدولة، بل هو سندها الحقيقي. القوى الجماهيرية ليست تهديدًا للاستقرار، بل هي شرطه. حين يُسمح لها بالتحرك، فإنها لا تخلق الفوضى، بل تخلق التيار الوطني القادر على مواجهة المشروع الخارجي، وعلى إعادة بناء الدولة من الأسفل إلى الأعلى، من الناس إلى المؤسسات، من الوعي إلى السياسات.
اللحظة التاريخية لا تحتمل التردد. المطلوب هو فتح الطريق أمام الجماهير، لا احتواؤها ولا تهميشها. المطلوب هو الاعتراف بأن استعادة وزن الشارع هو السبيل الوحيد لإفشال المخطط التفتيتي، ولإعادة بناء وطن يستحق أن يُحكم بإرادة شعبه، لا بإرادة الخارج. هذه ليست دعوة للتمرد، بل دعوة للاستقرار الحقيقي، الذي لا يُبنى إلا على قاعدة جماهيرية صلبة، وعلى مشروع وطني جامع، وعلى شارع حي، لا يُقصى ولا يُكسر.
الشارع ينتظر من يبسط الروح الثورية فيه، فالدولة الان أمام خيار تاريخي: إما أن تستدعي الجماهير لتكون شريكة في البناء ومحاربة المشروع الخارجي، أو أن تتركه في الهامش، حيث لا يُبنى وطن، ولا يُهزم مشروع خارجي.