الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرواية الأولى / مجدي عبدالعزيز

قطار العرفان… من القاهرة الي أسوان

مجدي عبدالعزيز


▪️حين تهجم المحن الكبرى، لا يُختبر معدن الأفراد فقط، بل تُختبر أيضًا معادن الأمم والشعوب… وفي محنة السودان الجريحة، حين ضاقت الأرض بأهلها، واشتد الخطب، وجعلتهم نيران الحرب يفرّون من الديار، وقفت مصر، كعادتها، لا تسأل من أتى من أنتم؟ بل تسألهم: ماذا تحتاجون؟

▪️وكان آخر فصول هذا العطاء الإنساني النبيل، ما شهدناه امس من تخصيص قطار خاص لنقل السودانيين المتواجدين في مصر – قطار القاهرة/أسوان – وذلك لتيسير وتسهيل عودتهم الطوعية إلى الوطن .. خطوة إنسانية رفيعة، ليست غريبة على أرض عُرفت منذ الأزل بأنها حضن واسع لكل جريح، وسند لكل محتاج، وبلد يُفكّر بقلبه قبل قراراته.

▪️هذا القطار، الذي شقّ طريقه الطويل من الشمال الي الجنوب ، لم يكن مجرد وسيلة نقل، بل كان عربات من المحبة، وقاطرة من الكرامة، ومحطة من محطات الوفاء في سجل العلاقة التي لا تنكسر بين الشعبين الشقيقين. آلاف الأسر السودانية وجدت في هذا القطار يدًا ممدودة بالتيسير، وقلوبًا تحترم كرامتهم، وعونًا من غير منٍّ أو شرط.

▪️ولم يكن هذا الفصل سوى واحد من فصول كثيرة كتبها المصريون بحروف من وفاء في دفاتر الأخوة السودانية المصرية؛ منذ كوارث السيول التي داهمت قرى السودان، مرورًا بجائحة كورونا التي ضربت العالم، وليس انتهاءً بالحرب الأخيرة التي اجتثّت الأمن من جذوره. مصر كانت هناك دومًا… تمد يدها، تفتح أبوابها، وتغلق ألسنة الأسلاك الشائكة.

▪️بعد اندلاع الحرب، وفي وقت كانت بعض دول العالم تشترط، وتفرز، وتغلق، وتُميّز اللاجئين، فتقيم لهم المخيمات وتعزلهم خلف الأسوار وتُسكنهم الخيام، فتحت مصر قلبها وبيوتها ومؤسساتها، واحتضنت ملايين السودانيين في مدنها وقراها، دون أن يشعروا يومًا بأنهم غرباء أو ضيوف غير مرغوب فيهم. عاش السودانيون في مصر كما يعيش أهلها… في شققها، وعماراتها، وأحيائها، ومدارسها، ومشافيها، وأسواقها.

▪️لم تُجرِ مصر على السودانيين أي إجراءات تمييزية، ولم تُلزمهم بإثبات اللجوء، ولم تَفرض عليهم عزلًا أو عارًا. بل على العكس، اندمج السودانيون في تفاصيل الحياة اليومية، تشاركوا المأكولات، تبادلوا القصص، وتلاقحت الثقافات. من شارع المعز إلى ميدان الحصري، ومن أسوان إلى دمياط، بات السودان حاضرًا في الوجدان المصري، كما كان دومًا.

▪️هذه السنوات التي جمعت السودانيين والمصريين ليست فقط سنوات مجاورة قسرية بسبب الحرب، بل كانت سنوات تعارف عميق، وحياة مشتركة، وانكشاف على قيم الشعبين. فالثقافة السودانية اقتربت من الناس هنا، والمصري عرف السوداني عن قرب، لا من وراء شاشات الأخبار، بل من الواقع… واقع البيت المشترك، والمائدة الواحدة، والدعاء المتبادل في المساجد والكنائس.

▪️وإذا كان كثيرون يُرددون دائمًا عبارة “العلاقات السودانية المصرية علاقات مصير مشترك”، فإن مصر قد جعلت من هذه العبارة حقيقة حية في قلب المحن، لا شعارًا نردده في المؤتمرات، بل موقفًا نعيشه ونراه. وفي قلب الحرب… تتجلى الحقائق، وتنكشف القلوب.

▪️أما ذلك القطار الذاهب من القاهرة إلى أسوان، المحمّل بالأشواق والوداع، فقد أعاد إلينا رمزًا عميقًا في الوجدان السوداني… فالقطار في الذاكرة الجمعية هو رمز الفُرقة والفقد، كتبنا فيه الشعر، وغنينا له الحنين.

▪️“قطار الشوق متين ترحل… تودينا”
غنّى بها السودان جراحه وشوقه، وغنّى بها أهله مودّعين الحبيب، أو منتظرين الغائب. واليوم، في عربات هذا القطار المصري، كان السودانيون ينظرون من النوافذ إلى البقاع التي آوتهم وأكرمتهم، وكان في العيون دمع حار، وفي القلوب حنين وشكر، وفي الصدور دعاء صادق بأن يحفظ الله مصر وأهلها.

▪️كانوا يلوّحون لناس الأزهر والحسين، لزحمة القاهرة، لطيبة الصعيد، لرحابة أسوان، يلوّحون بكلمات لا تُقال… فقط تُحس. وداخلهم يتمتم: “شكرًا مصر… يا حضنًا وقت الضيق… يا سِترة وقت العراء… ويا جارًا، في زمنٍ عزّ فيه الجار الكريم”.

▪️مصر… ستظل دائمًا هي الشقيقة والرفيقة ، لا بالتوصيف السياسي، بل بالفعل الإنساني.

،، والي الملتقي ..

اترك رد

error: Content is protected !!