(١)
تستحكم الأزمة السياسية في السودان حتى تكاد تُطبق على كل شئ؛ وتُرخي سدولها على وضع البلاد الإقتصادي والاجتماعي لدرجة يكاد الناس فيها أن يفقدوا الأمل في أي إصلاح يلوح في الأفق المنظور، وعلى الرغم من مرور أربعين شهراً على التغيير الذي حدث في أبريل ٢٠١٩م حيث ارتفعت آمال الناس في تحول ديمقراطي كامل وإحداث استقرار سياسي شامل إلاّ أن أياً من الشعارات التي تمّ التلويح بها حينها (حرية – سلام – عدالة) لم يبلغ تمامه، وفي المقابل تراجع مستوى الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وكهرباء ومياه، حتى تريّفت حواضر السودان وعاصمته !!
قبل عام من الآن، نُشر لكاتب هذا المقال مقالٌ بمناسبة مرور عامين على تولي حكومة الدكتور حمدوك مقاليد السلطة، قلتُ فيه إن أحد السيناريوهات الثلاثة التي تتنافس على تَصَدُّر أجندة الفترة الإنتقالية تراجع من المرتبة الأولى إلى الثالثة، وهو سيناريو التحول الديمقراطي، وأن سيناريو “الشمولية المُحَدَّثة” وسيناريو الحرب الأهلية تصدرا مشهد السباق، والمقال الذي كان عنوانه “السودان بين سيناريو الشمولية والحرب الأهلية” مبذول الآن على الشبكة العنكبوتية لمن أراد الاطلاع عليه، لكن الذي يهمنا اليوم هو البحث في أيُّ السيناريووين يُرجح أن يكسب الجولة، بعد أن تأكد أننا اليوم أبعد عن التحول الديمقراطي، أكثر من أي وقت مضى !!
(٢)
لا نحتاج إلى حشد الاستدلالات لإثبات أن المسؤولية الأولى في تراجع سيناريو التحول الديمقراطي تقع على عاتق القوى السياسية والمدنية التي فشلت حتى الآن في الإتفاق على طبيعة المرحلة الإنتقالية والقضايا التي ينبغي أن تتصدرها وآليات إدارتها؛ وفشلت كذلك في أن تقدم هي المثال في التحول فتشرع في تجديد هياكلها وإقامة مؤتمراتها العامة وانتخاب قياداتها. وقد زاد من تعميق هذا الفشل تعارض الأجندة بين مختلف القوى السياسية وطغيان رغبة مَن تصدروا المشهد السياسي منذ أربعين شهراً في تصفية حساباتهم مع خصومهم السياسيين عن طريق أدوات السلطة وإشاعة خطاب الكراهية وممارسة الإقصاء والعزل السياسي.
ولا شك في أن التدخل الخارجي الكثيف في الشأن الوطني الداخلي زاد من هوة الشقاق بين الأطراف السياسية، خاصة وأن أغلب مَن يتدخلون لم يُعرف لهم حرص على الديمقراطية وتداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، لكن الخارج مهما بلغ نشاطه يظل تأثيره محدوداً ما لم يجد قوى محلية تتماهى مع أجندته.
ومثلما تراجع سيناريو التحول الديمقراطي، تراجع أيضاً سيناريو الحرب الأهلية، على الرغم من أن خطاب الكراهية والتحريض لم تنخفض وتيرته، والسبب الراجح وراء ذلك هو أن الأطراف الحاملة للسلاح من جيش ودعم سريع وحركات مسلحة، أضحت على قناعة بأنه لا مصلحة لها في إشعال فتيل الحرب الأهلية، لأنها – ببساطة – هي مَن يحكم الآن ولا مصلحة لطرفٍ فيها أن يبادر بالوقوع في فخ الفتنة لكونه يعرف أنه سيخسر كل شئ إن هو بادر بإشعال فتيل الحرب.
(٣)
الآن نحن أمام مشهد جديد، يختلف كلياً عن المشهد الذي كان قد تشكل عقب سقوط نظام الإنقاذ، فالقوى السياسية والمدنية التي كانت تبدو متوحدة خلف أهداف “الثورة” تفرقت شذر مذر، وتقاذفت فيما بينها الاتهامات بخيانة الثورة أو الانحراف بها عن أهدافها، بعد أن تقسمت إلى أكثر من ثلاث كُتل تدّعي كل واحدة منها أبوتها للثورة.
والقوى الشبابية التي شكلت وقود الثورة والمحرك الأساسي في الشارع أصابها الوهن وتراجع تأثيرها في المشهد، إما بسبب الانقسامات السياسية التي طالتها على خلفية محاولات تسييسها المستمرة أو بسبب يأسها من إصلاح البيئة الحاضنة للثورة، ولم يعد الشارع – الغارق في هموم معاشه – يعبأ بنداءاتها للخروج والتظاهر.
أما القوى السياسية التي تعرضت للعزل والإقصاء، فقد استجمعت أطرافها وشكلت حضوراً رمزياً في مسرح الأحداث وأضحت تكتلاً سياسياً لا يمكن تجاهله من قِبل أي طرف يبحث عن سند شعبي وتأييد جماهيري.
وإزاء هذا الواقع الجديد بقي التأثير الحقيقي في المشهد القائم الآن من نصيب المؤسسة العسكرية، ومن الواضح أنها الآن تحصد نتائج فشل القوى المدنية بأكثر من كونها تحصد نتائج نجاحها هي، وتسعى لتكون هي الشريك الموثوق للقوى الخارجية والطرف القادر على إدارة الفترة الإنتقالية مع مَن رضي من القوى السياسية.
(٤)
أدارت المؤسسة العسكرية ما مضى من الفترة الإنتقالية بقدر كبير من الحرفية والحكمة، فهي عندما قررت ما اعتبرته انحيازاً للشارع الثائر، كانت تدرك حجم المخاطر التي تتعرض لها البلاد وقتها، وكانت تعرف أن القوى الدولية التي ضربت حصاراً متعدد الأشكال على نظام الإنقاذ لنحو ثلاثين عاماً، وساهمت بالقدر الأكبر في إسقاطه، لا ترغب في أن ترى إسلاميي السودان يسيطرون على مفاصل السلطة وإلا لأبقت على حصارها وقوائم إرهابها قائمة؛ ولذلك عمدت المؤسسة العسكرية إلى نفي أية علاقة لها بالنظام السابق إلى الدرجة التي تبنت فيها قضية التطبيع مع إسرائيل، وزجت بقادته في السجون، وفي نفس الوقت اجتهدت في أن تتقرب من “القوى الثورية” إلى الدرجة التي عقدت معها شراكة سياسية، وتركت لها الحبل على الغارب لمدة سنتين كي تدير البلاد وتُحدث فيها التحول المطلوب.
أدارت القوى السياسية السلطة التي تسلمتها على طبق من ذهب ومحروسة ببندقية العسكر، أدارتها بشكل أخرق وسلوك صبياني، ومن صبيانيتها هذه كشفت عن خططها للغدر بشريكها العسكري بمجرد أن تؤول إليها رئاسة المجلس السيادي، فكان ذلك وحده سبباً كافياً لنتف ريشها الذي أنبتته السلطة وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.
كان العسكريون منتبهين إلى شراكتهم مع تحالف الجبهة الثورية بعد توقيع إتفاق جوبا للسلام، ولذلك عمدوا إلى عدم المس بما اقتضاه ذلك الإتفاق حين قرروا فض الشراكة مع مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، وفي نفس الوقت كانت لهم خطوطهم المفتوحة مع القوى السياسية التي سبق وأن شاركت نظام الإنقاذ وتعرضت للعزل والإقصاء عقب سقوطه، وكذلك مع القوى المجتمعية من زعماء القبائل والإدارات الأهلية وزعماء الطرق الصوفية. وهكذا بدا أن المعطيات على الأرض تتغير بحيث لم يعد بوسع أي طرف الادعاء بأنه يملك الشارع أو يتحكم فيه؛ بل قد يجوز القول بأن الجيش أصبح يمتلك من التأييد الشعبي ما يؤهله للذهاب بعيداً في مشوار إكمال إنفراده بالتحكم في مسارات ما تبقى من الفترة الإنتقالية.
(٥)
القوى الدولية والإقليمية التي ظلت تراقب هذه التطورات عن كثب، بل ربما كان لبعضها دور في صناعتها، أدركت الآن الحقائق الماثلة على الأرض، وهي أن إضعاف حضور المؤسسة العسكرية في الفترة الإنتقالية أمر شبه مستحيل، ومن شأنه أن يلحق ضرراً باستقرار السودان وبمصالحها هي قبل أن يُضر بالجيش ، فعمدت إلى التعاطي الإيجابي مع الأمر الواقع، وأرسلت الولايات المتحدة الأمريكية – آخر الممانعين – سفيرها إلى الخرطوم ليعتمده البرهان وهو في كامل هندامه العسكري.
وها هو البرهان الذي حاول شركاؤه السابقون عزله دبلوماسياً يقود وفد السودان للمشاركة في اجتماعات الدورة (٧٧) للجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن غير المستبعد أن يلتقي على هامش تلك الإجتماعات بعض كبار المسؤولين الأمريكان!!
خريطة الطريق إذن، لبقية الفترة الإنتقالية، أصبحت واضحة، فنحن نقترب من مقاربة تجربة الراحل المشير سوار الذهب ودكتور الجزولي دفع الله، مع ضرورة إدخال بعض التحسينات الشكلية عليها بحيث يتم تفادي إزعاج مجموعات الناشطين المتصلين ببعض رجال الكونغرس، أما عن أمد ما تبقى من الفترة الإنتقالية فذلك شأن أضحى في علم الغيب، وهو على كل حال لن يكون قريباً.