في هذا الشهر نستعيد ذكرى رحيل أستاذنا وأديبنا المبدع الطيب صالح وبالمناسبة نعيد نشر هذا المقال :
{ عرس للزين بمقابر البكرى }
(يا محيميد الحياة… الحياة يا محيميد…. ما فيها غير الصداقة والمحبة).
بالأمس صدقت الرؤيا، وأبصرتُها بعيني هاتين، اللتين سيأكلهما الدود!!. بالأمس فاضت دموع أمدرمان بحراً من المحبة، وبكت ياويب لي.. ياويب لي. سآتيكم بوصفها حالاً.
نُص الليل رنّ الهاتف!! يااااااه يا ترى مَن مِن الأحباب غادر؟ كم أكره هواتف آخر الليل. مددت يدي للهاتف… نعم.. البركة فيكم الطيب صالح…… أغلقت الهاتف قبل أن يكمل….. وجلستُ في نص السرير.. لعن الله الكوابيس…. ولكن هذا زمان تتحقق فيه الكوابيس!!.. قبل أسبوعين اتصل محمد خير وهو يبكي (يا عادل النور مات). كان ذلك نُص الليل واعتبرته كابوساً.. ولكن صحوتُ على صوت الناعي (رحل صاحب صحو الكلمات المنسيَّة).
كنتُ قد سألت الصديق خالد فتح الرحمن عن صحّة الطيب صالح قبل أيام، فقال لي: (أفاق من الغيبوبة)… «متَّعه الله بالصحة» قلت… ولكن رسالة نصيّة من خالد أمس الأول (رحم الله الطيب صالح). أعادت الكوابيس لصيرورة تحققها. هكذا دخلت أنا في غيبوبة لم أفق منها، حتى وأنا أكتب لكم هذه السطور كما ترون.!!.
بدأت المساسقة من مركز عبد الكريم ميرغني، حيث اجتمعنا نعزِّي أنفسنا، كُتاباً، وصحفيين، ومحبين. ثم إلى بيت أخ الطيب؛ بشير، في مدينة النيل بأمدرمان، إلى دور صحفنا.
طاردتني الأسئلة طوال اليوم، ويا لها من أسئلة لعينة!! متى يصل الجثمان؟. يا إلهي!! بالأمس كان اسم الطيب لا يُذكر إلَّا ويُذكر قبله الأديب العالمي، والكاتب المبدع. اليوم هو كأنه بلا اسم، هو جثمان!!. هذا ما لا أحتمله لمَ لا تقولون متى يعود الطيب إلى أرضه؟ كان أوقع وأخفّ ضرراً على نفسي. كنت أردد سيصل الطيب فجر اليوم. في آخر زيارة له للخرطوم غادرها فجراً، ثم غادر الدنيا كلها قبل يومين فجراً، وسيصل إلينا غداً فجراً، ويا ويح فؤادي من فجر غد.
غالبت النوم حتى الثالثة فجراً في انتظار فجر الطيب. آخر مرة استقبلت فيها حبيباً على تابوت، كان سامي سالم، وقبلها قطبي. الله يقطع طاري التوابيت!!. نمت لم تقوَ قواي المنهارة أصلاً على الصمود حتى الرابعة فجراً. صحوت مفزوعاً (جري علي البكري). كان دكتور عبد الله حمدنا الله (رفيق العزاءات) يحدثني في الطريق عن شخصية كرهها الطيب صالح، وأحبّ ألا يكونها؛ هي مصطفى سعيد. وأخرى أحبها وعجز أن يكونها، وهي شخصية منسي. قلت للدكتور اليوم تحقق شيء من ذلك. فمصطفى سعيد عاد ليُدفن هنا على هذه الأرض، وها هو الطيب يعود ليدفن في البكري. منسي أحب أن يُدفن مع من يحب في مقابر المسلمين، وكان أهله يحسبون أنه مسيحي.. وشهد الطيب أنه مسلم، فدُفن مع من أحب في مقابر المسلمين بلندن. الآن ها هو الطيب صالح عاد ليُدفن مع من أحب (صلاح أحمد إبراهيم، وعلي المك) في مقابر البكري.
حين وصلنا إلى مقابر البكري، كانت الجموع قد احتشدت، واصطفوا للصلاة. صلّينا.
حملته أمدرمان على أكتافها, أدمنت أمدرمان حمل الشهداء على أكتافها. حملته… لا… لا ليس لمثواه الأخير… مثواه لن يكون أخيراً هنا تحت التراب.. مثواه سيبقى في قلوب المحبين الولِهين والقُرّاء المعجبين، ثم من بعد نسأل الله أن يكون مثواه الأخير في الفردوس الأعلى.
داهمتني فكرة عجيبة. لماذا لا أسرع إلى الداخل قبل أن يلج الطيب البابَ إلى حيث المثوى..؟ راودتني رغبة أن أزف النبأ لجدي الباز الذي يرقد على بعد أمتار من القبر المفتوح والمُعَد، حتى يكرم وفادته، ثم أعرّج على قبريْ صلاح أحمد إبراهيم شمالاً، وعلي المك يمينا، ولا شك أنهما سيسعدان منذ اليوم بأُنس شفيف. يا لهذا الطيب!! حشود تودِّعه فوق الأرض بمحبة غامرة. وآخرون ينتظرونه تحتها بذات المحبة (ستدرك أيها الصالح أن الدنيا والآخرة مافيهما غير المحبة). لم أفعل فلم تعد لديّ قدرة على هذا التدافع.
زحفتُ ناظراً لتلك الجموع، التي تدفقت تحمل الطيب صوب المثوى. كدتُ أقول لهم لمَ العجلة..؟ في المدخل سمعت صوت (يا أستاذ زح خلّي الرئيس يدخل)، التفتُّ ناحية الصوت.. و»زحّيت»… ودخل الرئيس يحمل عصا، وبجانبه سبدرات وبكري. ثم زحفتُ وأنا أجول بنظري، فخلتُ نفسي في ذات ساحة عرس الزين. كل أهل الزين وأحبابه كانوا هناك . الأنصار والإخوان والشيوعيون والشوش، والختمية يتلون أذكارهم على حافة القبر، نساء ورجال، وفنانون وممثلون ومهرّجون جمعهم الطيب في يوم عرس زيْنه، وهاهم يجتمعون ثانية في عرس المؤلف . (الموت يا جليس الحضرة كاساً داير… سماحتو عليك زي يوم العريس الساير).
ما إن تدلّى الطيب لداخل مثواه، حتى بدأت أنزف دون بكاء. وأنّى لي احتمال هذا النشيج الصامت.. من الخير لي أن (أجعّر). «ماقدرت». مع كل حركة في المقبرة كنتُ أحس نفسي انحشر بين ضلوعي. “جيبوا التابوت… نزّلوا هنا…. جيبوا الزنك (ما لكم والزنك في هذا الحر) صلّح التربة… نزّل الصندوق……. هذا عذاب لا يُحتمل….. صدق أهلنا حين قالوا (الموت دواهو عدم العرفة).. غير أني أعرفه.. تعرّفت عليه تحت “نخلة على الجدول” وفي ظلال “دومة ودحامد”، وأُعجبت به كمفكِّر، وروائي عظيم في موسم هجرته للشمال، وأحببته في “مريود” وتوجتُه ملكا على قراءاتي في بندر شاه. كيف لا أعرفه..؟ هو بعضٌ من محبتي لهذه الأرض. إذن كيف تدفنونه أمامي بهذه الطريقة.. ؟. أنا لا أقبل أن يُدفن بعضٌ مني هكذا.!!. كدت أقول لهم توقفوا، ولكن دمعي خذلني. بكيتُ كما لم أبكِ من زمان طويل. كنت بحاجة لزول أقلدوا وأبكي…..فكان الشوش.. ومن سوى الشوش رمز صداقة ومحبة الطيب صالح أحق بدموعنا على حافة المثوى؟.
يقول عبد الوهاب الأفندي إن مقولة الطاهر ود الرواسي أحد شخصيات رواية “ضوالبيت” تصلح لرثائه. وأنا أوافقه (يوم الحساب، يوم يقف الناس بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب مقطّع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة’. وأورد الأفندي قوله في رثاء تاج السر محمد نور ‘ما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات… لا يعزيك أنه رحل عن الدنيا قرير العين راضي النفس… كان ذاهباً إلى لقاء ربه في صلاة الجمعة، مقبلاً إليه بكليته. على أهبة الاستعداد للسفر.
تأمل رحمك الله كيف ذهب الطيب صالح إلى ربه يوم الجمعة مقبلاً إليه بكليته وسافر فجراً قبل صلاة الجمعة.
ها قد تركناه هنالك في المثوى عند عفو ربه وهو به حفي، إنا لله وإنا إليه راجعون