
كما أنّ للأموال طرقًا ملتوية وغير مشروعة للانتقال عبر قنوات التبييض المعقّدة، فإنّ للسلطات أيضًا أساليبها في إعادة التدوير والتمويه، حيث يسعى الأفراد والجماعات، الذين فقدوا شرعيتهم أو ارتبطوا بأنظمة سابقة، إلى التسلل إلى المشهد الجديد بوجوه مزيّفة وشعارات براقة او جلدٍ جديد. وإذا كان “غسيل الأموال” يقوم على إخفاء الأصل غير المشروع للأموال ليبدو وكأنّه مشروع وقانوني، فإنّ “غسيل السلطة” يقوم على إخفاء الأصل غير الشرعي للنفوذ السياسي أو العسكري أو الحزبي، ليظهر في صورة جديدة متصالحة مع الواقع، أو في هيئةٍ غير مسؤولة ولا مُسَاءلة عن الماضي، بل وأحيانًا في موقع الوصي على المرحلة الحاضرة اوالمقبلة.
إنّ هذه الظاهرة، التي يمكن أن نطلق عليها “غسيل السلطة”، لا تقل خطورة عن غسيل الأموال، بل ربما تتجاوزه أثرًا وضررًا، لأنها لا تمس الاقتصاد وحده، بل تمس جوهر المجتمع والدولة. فهي تُعيد إنتاج منظومات السلطة غير الشرعية أو القهر والفساد، وتُلبسها لبوسًا جديدًا، فتمنع الشعب من تحقيق التحول الحقيقي المنشود نحو الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
“غسيل السلطة” ليس مجرد تبدّل في المواقف أو مراجعة للتجارب، بل هو عملية مقصودة وممنهجة للتمويه والالتفاف، تُستخدم فيها كل أدوات الخطاب السياسي والإعلامي، وتُستثمر فيها الثورات والانقلابات والانتفاضات الشعبية كسلالم وروافع للوصول إلى شرعية جديدة دون دفع استحقاقات التغيير. وهنا تكمن خطورته؛ إذ يُصبح المجتمع أسيرًا لدائرة مفرغة، حيث يسقط نظام قديم ليعود بعض الأفراد أو الجماعات في ثوب جديد، ويستبدل الشعب وجوهًا دون أن يغيّر جوهر السلطة أو بنيتها أو يرثها من لا يستحق او من لم يدفع استحقاقات التغيير.
ومن ثمّ، فإنّ الكشف عن هذه الظاهرة، وتشريح مظاهرها وتجلياتها، وتحذير المجتمع والأجيال من مخاطرها، يُعدّ خطوة أساسية لحماية مسار التحول الديمقراطي، ولضمان أن يكون التداول السلمي للسلطة واقعًا راسخًا، لا مجرد شعار يُرفع لتزيين واجهات الغسيل السياسي.
غسيل الأموال هو عملية معقدة تهدف إلى إضفاء الشرعية على أموال جُمعت بطرق غير مشروعة، كالاتجار بالمخدرات، الفساد، الرشوة، التهريب، أو حتى تمويل الإرهاب. جوهر هذه العملية يكمن في تحويل المال “القذر” إلى مال “نظيف” يبدو كأنه ناتج عن مصادر طبيعية ومشروعة، بحيث يصعب على السلطات الرقابية والقضائية تتبّع أصله غير القانوني.
تتم هذه العملية عادة عبر ثلاث مراحل متتابعة:
1) مرحلة الإيداع (Placement): وهي إدخال الأموال غير المشروعة في النظام المالي، سواء عبر البنوك، أو شراء أصول أولية كالعقارات والسيارات والمجوهرات.
2) مرحلة التمويه أو التغطية (Layering): وفيها تُوزَّع الأموال عبر شبكة معقدة من التحويلات والمعاملات المالية العابرة للحدود، باستخدام شركات وهمية أو حسابات في ملاذات ضريبية، بحيث تتداخل مصادرها وتختلط بأنشطة مشروعة.
3) مرحلة الدمج (Integration): حيث يُعاد إدخال الأموال في الاقتصاد المشروع، كاستثمارات في العقارات، المشاريع التجارية، أو حتى المؤسسات الخيرية، بحيث تُصبح جزءًا طبيعيًا من الدورة الاقتصادية.
وتتخذ مظاهر غسيل الأموال أشكالًا متعددة، منها:
استخدام الشركات الوهمية أو “الورقية” كواجهة قانونية.
المضاربة العقارية وشراء الأراضي والمباني بمبالغ ضخمة لتبييض الأموال عبر إعادة بيعها.
التحويلات البنكية الدولية، خاصة عبر دول تُعرف بضعف رقابتها المالية.
استغلال المؤسسات الخيرية أو الجمعيات الأهلية كقنوات لنقل الأموال.
الاستثمارات في قطاعات النقد السريع مثل الكازينوهات، المطاعم، الفنادق، التي تسمح بخلط الأموال القذرة بالإيرادات المشروعة.
الفكرة الجوهرية في كل هذه المراحل والمظاهر هي إخفاء الأصل غير المشروع للأموال و خلق منبعٍ جديدٍ لها لا علاقة له بأصلها، وتقديمها في صورة مقبولة قانونيًا واجتماعيًا، بما يتيح لمرتكبي الجرائم الاستفادة منها دون مساءلة، وبما يُعطي الانطباع أنها أموال “نظيفة” لا غبار عليها.
الديمقراطية ليست مجرد آلية سياسية أو صناديق انتخابية، بل هي منظومة قيم ومؤسسات تُرسِّخ مبدأ أن الشعب هو مصدر الشرعية الوحيد، وأن السلطة أمانة تُمنح وتُسترد عبر الإرادة الشعبية الحرة. تقوم الديمقراطية على أن الحكم ليس ملكًا لفرد أو جماعة، بل هو عقد اجتماعي بين الدولة والمواطنين، يُدار وفق الدستور والقانون، ويُراقَب عبر مؤسسات تمثل الأمة.
جوهر الديمقراطية هو الفصل بين السلطات بحيث لا تنفرد جهة واحدة بالقرار، بل تتوزع الصلاحيات بين:
السلطة التشريعية التي يختارها الشعب لتسن القوانين وتراقب الحكومة.
السلطة التنفيذية التي تدير الدولة تحت طائلة المساءلة.
السلطة القضائية المستقلة التي تفصل في النزاعات وتحمي الحقوق والحريات.
أما التداول السلمي للسلطة فهو التعبير العملي عن روح الديمقراطية. فهو النقيض المباشر للانقلابات العسكرية واغتصاب الحكم بالقوة، إذ يضمن أن انتقال الحكم من قيادة إلى أخرى يتم عبر صناديق الاقتراع لا فوهات البنادق، وعبر المؤسسات الدستورية لا الصفقات السرية. وهو بذلك يحفظ كرامة الأمة، ويُجنِّبها دوامات الدم والانقسام، ويمنع إعادة إنتاج الاستبداد تحت شعارات مختلفة.
إنّ التداول السلمي للسلطة لا يقتصر على تغيير الحكومات فحسب، بل يتعداه إلى بناء ثقافة سياسية تُقرُّ بأن الشرعية لا تُختطف بالقوة، ولا تُشترى بالمال، ولا تُفرض بالدعاية، بل تُستمد من الشعب، ويجددها الشعب. وهذا المبدأ هو خط الدفاع الأول ضد ظواهر الالتفاف على الديمقراطية، مثل الانقلابات العسكرية أو ما يمكن تسميته بـ غسيل السلطة، حيث يحاول بعض الفاعلين إعادة تقديم أنفسهم في ثوب جديد رغم ماضيهم الملوث.
لقد أظهرت تجارب التاريخ الحديث أن التداول السلمي للسلطة هو معيار جوهري لاستقرار الدول ونهضتها. فبعد الحرب العالمية الثانية، استطاعت دول أوروبا الغربية أن تؤسس أنظمة ديمقراطية راسخة، من أبرز سماتها انتقال السلطة بين أحزاب واتجاهات سياسية متباينة دون أن تهتز الدولة أو تنهار مؤسساتها. ففرنسا على سبيل المثال عرفت في ظل الجمهورية الخامسة تداولًا متكررًا للسلطة بين اليمين واليسار، ومع ذلك حافظت على استقرارها المؤسسي وتقدمها الاقتصادي.
أما في جنوب إفريقيا، فقد شكّل انتقال السلطة في التسعينيات من نظام الأبارتهايد إلى حكم الأغلبية مثالًا فريدًا في التاريخ الحديث؛ إذ لم يكن مجرد تحول سياسي، بل كان انتقالًا سلميًا للسلطة عبر انتخابات حرّة، ترافقت مع مشروع عدالة انتقالية منح النظام الجديد شرعية أخلاقية وقانونية، ومنع في الوقت ذاته عودة الاستبداد بوجه آخر.
في المقابل، فشلت دول أخرى في ترسيخ هذا المبدأ، فعاشت في دوامة الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة. ففي بعض بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا، تحوّل كل تغيير في السلطة إلى صراع دموي، لأن مبدأ التداول السلمي لم يترسّخ كممارسة أو ثقافة سياسية، فكانت النتيجة إعادة إنتاج الاستبداد بأسماء مختلفة.
هذه المقارنات تبيّن أن التداول السلمي للسلطة ليس مسألة شكلية أو ترفًا سياسيًا، بل هو خط الفصل بين الدولة التي تتجه إلى الاستقرار والنهوض، والدولة التي تدور في حلقة مفرغة من الانقلابات والفوضى. وهو أيضًا المعيار الذي يُظهر الفرق بين التحول الديمقراطي الحقيقي، وبين محاولات الالتفاف عليه تحت مسميات براقة، أي ما يمكن وصفه بـ غسيل السلطة.
ما هو غسيل السلطة؟
“غسيل السلطة” هو عملية سياسية/اجتماعية ممنهجة، يلجأ إليها أفراد أو جماعات، مدنيون كانوا أو عسكريون، فقدوا شرعيتهم، أو ارتبطوا بأنظمة سابقة مطاح بها، فيسعون لإعادة تقديم أنفسهم بوجه جديد، مزيّنين خطابهم بشعارات وطنية أو ثورية، ليتسلّلوا مجددًا إلى مواقع النفوذ. جوهره هو إخفاء الماضي الملوث بالاستبداد أو الفساد تحت واجهة مصطنعة من الوطنية أو الإصلاح، تمامًا كما يُخفى أصل الأموال القذرة عبر شبكات غسيل الأموال.
تتجلى خطورة غسيل السلطة في أنّه لا يقوم على الاعتراف بالخطأ أو محاسبة الماضي، بل على الالتفاف حوله والتهرّب منه، مستغلًا التحولات السياسية الكبرى — من ثورات وانتفاضات وانقلابات أو حتى حروب وأزمات — باعتبارها فرصة لإعادة التموضع.
أبرز مظاهره وتجلياته:
1) ركوب الانقلابات والظهور كحماة الدولة:
حيث يسارع بعض القادة العسكريين أو السياسيين إلى التقدّم في واجهة المشهد فور سقوط النظام، مدّعين أنهم حماة الوطن وضامنون لاستقراره، بينما هم في الحقيقة امتداد مباشر للنظام المخلوع، أو شركاء فيه، لكنهم يحاولون غسل ماضيهم عبر موقع جديد يمنحهم سلطة الأمر الواقع.
2) امتطاء الثورات الشعبية وتقمّص خطابها دون الإيمان بقيمها:
كثيرًا ما يظهر أفراد أو كيانات سياسية كانت جزءًا من النظام السابق فجأة كـ”ثوار” أو “مناضلين”، يتبنون شعارات الانتفاضة، لكنهم في الجوهر يسعون إلى الاستفادة من زخم الثورة لصالحهم، من دون الالتزام الحقيقي بمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية التي حملتها الجماهير.
3) التلاعب بالشرعية عبر تغييب المؤسسات الدستورية:
من أخطر أساليب غسيل السلطة هو تفريغ العملية الانتقالية من مؤسساتها الحقيقية، مثل تغييب المحكمة الدستورية، أو تعطيل البرلمان، أو إطالة أمد الفترة الانتقالية، ليتحوّل الحكم إلى سلطة تنفيذية مطلقة غير خاضعة للرقابة، بما يسمح بتمرير قرارات وسياسات تمنح الغطاء لوجود غير شرعي.
4) الاستثمار في الحروب والأزمات لكسب سلطة أمر واقع:
في لحظات الانقسام أو النزاع، يلجأ بعض الفاعلين إلى تقديم أنفسهم كقوة أمر واقع تفرض وجودها بالسلاح أو بالتحالفات الخارجية، محاولين إقناع الداخل والخارج بأنهم الجهة الوحيدة القادرة على “إدارة الدولة” أو “حماية الشعب”، فيغسلون سلطتهم بالقوة المسلحة تحت غطاء الضرورة الوطنية.
بهذه الممارسات، يتحوّل غسيل السلطة إلى عملية إعادة إنتاج للاستبداد، تعيد تدوير نفس الوجوه أو نفس العقلية، وتقدّمها في ثوب جديد، مما يُفقد الشعب ثمرة التضحيات، ويُبقي الدولة في دائرة مغلقة من الأزمات والانقلابات المتكررة.
وعلى هذا القياس، تبدو الحالة السودانية أقرب إلى نمطٍ مركّب يجمع العسكري والحزبي وسلطة الحرب. وتاريخيًا، هناك نماذج سودانية حية لغسيل السلطة، و ذلك يتجلى في الأمثلة التالية:
1) سقوط الإنقاذ ومحاولة إعادة التدوير:
مع سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019م، انفتحت أمام السودان نافذة تاريخية لبناء نظام جديد قائم على قيم الحرية والعدالة. لكن سرعان ما ظهرت محاولات من قادة ورموز كانوا فاعلين في النظام السابق المُزال، وحتى من كيانات سياسية كانت شريكاً وجزءًا من منظومته، لتغيير جلدها والتبرؤ من ماضيها، مقدمة نفسها كشركاء في المستقبل. لقد كان ذلك أشبه بمحاولة غسل ماضٍ سياسي ثقيل، عبر تبني خطاب ثوري في العلن، بينما ظلّت بنيتها ومصالحها قائمة في العمق. هذه المحاولة المبكرة عكست قدرة بعض شبكات السلطة القديمة على المناورة والبقاء.
2) اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ:
تقدمت اللجنة الأمنية التي كانت جزءًا لا يتجزأ من نظام البشير إلى واجهة السلطة بعد سقوطه. بررت وجودها باعتبارها الضامن للأمن والاستقرار ومنع الانزلاق نحو الفوضى. غير أن حقيقتها أنها كانت امتدادًا للنظام المخلوع، تحمل إرثه الأمني والسياسي، وتسعى إلى إعادة تدوير نفسها في ثوب جديد. بهذا، مارست اللجنة الأمنية غسيلًا سياسيًا واضحًا؛ إخفاء ماضيها كشريك في أي اتهامٍ بالقمع والاستبداد و الفساد، وإظهار نفسها كحارس للوطن.
3) البرهان والوثيقة الدستورية:
تجربة الوثيقة الدستورية 2019م كانت مثالًا صارخًا لغسيل السلطة. فقد أُعيد تقديم المكون العسكري – وهو وريث مباشر للنظام السابق – كشريك شرعي في المرحلة الانتقالية. لم يستند هذا المكون إلى شرعية شعبية حقيقية، لكنه استند إلى توازنات القوة وادعاء حماية الثورة. بذلك، حصل على غطاء سياسي وقانوني جديد دون أن يقطع صلته ببنية الاستبداد القديمة.
4) قوى الحرية والتغيير:
لم تَسلم بعض أطراف قوى الحرية والتغيير من ممارسة غسيل السلطة. فبينما تمسكت بعض المكونات بجذوة الثورة، انجرفت أخرى نحو المحاصصة والمكاسب الآنية. هذا الانقسام فتح الباب لإعادة إنتاج الاستبداد بواجهة مدنية. فبدلًا من أن تكون قوى الحرية والتغيير كتلة موحّدة لحماية مشروع التغيير، دخلت في شراكة سلطوية مع المكون العسكري في مجلس السيادة، وتحولت إلى مظلة يُستغل تحتها النفوذ السياسي، في صورة جديدة من صور الغسيل السياسي.
5) حكومة حمدوك:
جاءت حكومة عبدالله حمدوك محمّلة بآمال كبيرة، إذ رآها الشعب بداية لتحول ديمقراطي حقيقي. غير أنّ استئثار مجموعة محدودة بقرارها، وإقصاء قوى سياسية ومجتمعية أخرى، مع تغييب البرلمان والمحكمة الدستورية عمدًا، منح الانطباع بأنها تُمارس “غسيل نفوذ”. فقد رُفعت شعارات الثورة والديمقراطية، لكن الممارسة العملية أفرغتها من مضمونها، وحوّلتها إلى أداة لإعادة تدوير السلطة داخل دائرة ضيقة.
6) الشرعية بداعي الحرب:
من أخطر مظاهر غسيل السلطة في السودان اليوم هو استخدام الحرب كذريعة للبقاء والاستمرار في الحكم. بعض القوى السياسية والعسكرية تحاول تبرير سيطرتها بالادعاء أنها تدافع عن الدولة أو تحمي المجتمع من الانهيار. في الحقيقة، هي تستثمر في معاناة الشعب، وتعيد إنتاج الأزمات ذاتها التي أشعلت الحرب، لكنها تُقدّم نفسها بواجهة وطنية، وكأنّها المنقذ. هذه الصورة تمثل المرحلة الأكثر خطورة لغسيل السلطة، لأنها تُغطي الاستبداد بالدم والتضحيات، وتحوّل المأساة الوطنية إلى وسيلة لاكتساب شرعية زائفة.
بهذا التفصيل، يظهر أن غسيل السلطة في السودان لم يكن حدثًا عابرًا، بل أصبح نمطًا متكررًا، كلما سقط نظام أو تبدلت مرحلة، برزت محاولات لإعادة إنتاج ذات البنية السلطوية في ثوب جديد، مانعةً الشعب من جني ثمار التضحيات.
ظاهرة غسيل السلطة في السودان ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل هي نمط تاريخي تكرر في كل محطة انتقالية منذ الاستقلال. ففي ثورة أكتوبر 1964م، سقط حكم الفريق إبراهيم عبود، لكن كثيرًا من وجوهه أعادوا التموقع في النظام الجديد بواجهات مختلفة. وفي انتفاضة أبريل 1985م، تكرر المشهد حين أطاحت الجماهير بنظام جعفر نميري، لكن اللجنة العسكرية الانتقالية برئاسة المشير سوار الذهب منحت غطاءً لرموز النظام السابق وأعادت إدماجهم في الحياة السياسية. ثم جاءت ثورة ديسمبر 2018م التي أسقطت نظام الإنقاذ، لتجد نفسها أمام ذات النمط؛ إعادة تدوير بعض رموز النظام المنهار عبر تبني شعارات الثورة أو تقديم أنفسهم كحماة لها. هذا التكرار الزمني يؤكد أن غسيل السلطة لم يكن مجرد استثناء، بل هو سلوك بنيوي متجذّر، يزدهر كلما غابت المؤسسات الضابطة للشرعية، ويعيد إنتاج الأزمة جيلاً بعد جيل.
ليست التجربة السودانية استثناءً، فغسيل السلطة ظاهرة متكررة في مسارات التحول السياسي عالميًا، خصوصًا في الدول التي شهدت ثورات شعبية أو انهيار أنظمة استبدادية. ومن أمثلة ذلك:
1) مصر بعد ثورة يناير 2011م:
عقب سقوط نظام حسني مبارك، ظهرت محاولات عديدة من رموز الحزب الوطني الديمقراطي لتغيير جلودهم السياسية، عبر تأسيس أحزاب جديدة وتبني شعارات الثورة، رغم أن جذورهم كانت ضاربة في الفساد والاستبداد. ومع صعود المؤسسة العسكرية، قدّمت نفسها كحامية للدولة في مواجهة الفوضى، فمارست غسيل سلطة من نوع آخر؛ إعادة تدوير شرعية المؤسسة القديمة، ومنحها غطاءً جديدًا تحت شعار الاستقرار والأمن القومي.
2) تونس بعد ثورة 2011م:
في تونس، حاولت بعض الأحزاب والشخصيات التي ارتبطت بنظام بن علي إعادة التموقع عبر خطاب “المصالحة الوطنية”، متبنّية لغة الثورة بينما حافظت على مصالحها القديمة. ورغم أن الانتقال التونسي حقق نجاحًا نسبيًا، إلا أن غسيل السلطة ظهر في محاولات الالتفاف على الدستور، وتعطيل المؤسسات المنتخبة، وإعادة تجميع قوى النظام السابق في ثوب جديد.
3) ليبيا واليمن:
في ليبيا واليمن، تحولت الفوضى والانقسامات إلى بيئة خصبة لغسيل السلطة. فالقادة العسكريون والزعماء القبليون والدينيون الذين كانوا جزءًا من الأنظمة السابقة، أعادوا تقديم أنفسهم كقادة للمرحلة الانتقالية أو كقوى أمر واقع، مستخدمين لغة “حماية الوطن” أو “الدفاع عن الشرعية”، بينما استثمروا في الحرب والانقسام لتعزيز مواقعهم.
هناك دروس مشتركة من هذه المقارنات يظهر أن غسيل السلطة يتخذ مظاهر متعددة:
في مصر: غسيل عسكري للسلطة.
في تونس: غسيل حزبي عبر خطاب المصالحة.
في ليبيا واليمن: غسيل عبر سلطة الحرب والفوضى.
في السودان: خليط يجمع بين كل هذه الأشكال (العسكري، الحزبي، والأمر الواقع بالحرب).
لكن الدرس الأبرز هو أن هذه الممارسات تتغذى دائمًا على غياب المؤسسات الدستورية المستقلة، وعلى ضعف الثقافة الديمقراطية، مما يسمح بإعادة إنتاج الاستبداد تحت واجهات جديدة.
لا يمكن مواجهة ظاهرة غسيل السلطة أو إبطال مفعولها إلا عبر ترسيخ أسس الديمقراطية الحقيقية، لا الشكلية. فالديمقراطية هنا ليست مجرد صندوق انتخابي أو شعارات تُرفع في الميادين، بل منظومة متكاملة من المؤسسات والقوانين والثقافة السياسية، قادرة على سد كل الثغرات التي ينفذ منها من يسعون لتزييف الشرعية. ومن الأسس الحقيقية للديمقراطية:
1) وجود برلمان منتخب يمثل الشعب:
البرلمان هو التعبير الأصدق عن الإرادة الشعبية، وهو السياج الأول ضد الالتفاف على السلطة. حين يُعطَّل البرلمان أو يُغيَّب عمدًا، يُترك المجال مفتوحًا للسلطة التنفيذية كي تنفرد بالقرار، وتُمارَس المحاصصات خلف الكواليس. لذلك، لا يمكن لأي نظام سياسي أن يدّعي الشرعية ما لم يستند إلى مؤسسة تشريعية منتخبة، تمارس دورها في سن القوانين ورقابة السلطة التنفيذية ومساءلتها.
2) تفعيل المحكمة الدستورية لضمان سيادة القانون:
المحكمة الدستورية هي الحارس الأعلى للدستور، وضمانة أن أي سلطة أو فرد لن يتجاوز حدود الشرعية. تغييب هذه المؤسسة يعني عمليًا ترك الباب مفتوحًا أمام غسيل السلطة، لأن من يحتكر القرار سيجد فضاءً فارغًا يمرر فيه سياساته دون محاسبة. إن تفعيل المحكمة الدستورية يقطع الطريق على أي محاولة لتزييف الواقع، لأنها المرجع الذي يفصل بين المشروع وغير المشروع، وبين الشرعي وغير الشرعي.
3) استقلال القضاء والفصل بين السلطات:
القضاء المستقل هو ميزان العدالة، وهو الذي يمنع تحوّل السلطة إلى أداة قمع أو فساد. فإذا خضع القضاء للسلطة التنفيذية أو العسكرية، صار مجرد أداة لغسل قراراتها وإضفاء الشرعية الزائفة عليها. أما إذا كان مستقلاً، فإنه يقف سدًا منيعًا أمام كل محاولة لاستغلال القانون لإعادة إنتاج الاستبداد. والفصل بين السلطات هنا ليس مجرد نص دستوري، بل ممارسة عملية تضمن أن كل سلطة تراقب الأخرى وتحد من تغوّلها.
4) التداول السلمي للسلطة كقاعدة غير قابلة للتلاعب:
التداول السلمي للسلطة ليس خيارًا سياسيًا بل هو شرط وجود الدولة الديمقراطية. إنه القاعدة التي تمنع أي طرف – عسكريًا كان أم مدنيًا – من اختطاف الحكم بالقوة، وتضمن أن الشرعية لا تُستمد إلا من الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة. حين يصبح هذا المبدأ غير قابل للتلاعب أو المساومة، تنتفي الحاجة إلى الانقلابات، وتُغلق الأبواب أمام غسيل السلطة، لأن الشعب هو وحده من يملك حق المنح والمنع.
إن الديمقراطية بمؤسساتها الراسخة، وبرلمانها المنتخب، ومحكمتها الدستورية الفاعلة، وقضائها المستقل، وثقافة التداول السلمي، هي الدواء الوحيد القادر على إنهاء دورة إعادة إنتاج الاستبداد. فهي لا تمنع غسيل السلطة فحسب، بل تُحوّل الشرعية من كونها غنيمة يتلاعب بها الفاعلون إلى عقد اجتماعي راسخ يحمي الجميع
لقد أثبتت تجارب عدد من الدول أن الطريق الوحيد لإبطال محاولات غسيل السلطة هو بناء مؤسسات ديمقراطية قوية، تجعل الشرعية مرتبطة بإرادة الشعب، لا بدهاء النخب أو مناورات العسكر، ومن هذه الدول كنماذج، نجد:
1)الهند:
منذ استقلالها عام 1947م، واجهت الهند تحديات هائلة من فقر وأمية وتعدد عرقي وديني، ومع ذلك نجحت في بناء ديمقراطية تُعد الأكبر في العالم. ورغم ظهور محاولات للالتفاف على السلطة، مثل فترة الطوارئ في عهد أنديرا غاندي، إلا أن قوة البرلمان، وصرامة القضاء، وحيوية المجتمع المدني، أعادت الأمور إلى نصابها. بهذا أثبتت الهند أن وجود مؤسسات قوية كفيل بقطع الطريق على محاولات غسيل السلطة.
2)جنوب إفريقيا:
بعد سقوط نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، كانت هناك خشية من أن تعيد النخب القديمة إنتاج سلطتها تحت شعارات جديدة. لكن اعتماد دستور تقدمي، وإنشاء محكمة دستورية قوية، وممارسة العدالة الانتقالية عبر “لجنة الحقيقة والمصالحة”، جعلت أي محاولة لغسل الماضي تمر عبر المحاسبة والاعتراف لا عبر التمويه. فاستطاعت جنوب إفريقيا أن تُدخل رموز النظام القديم في العملية السياسية ضمن قواعد ديمقراطية صارمة، لا عبر غسيل نفوذ.
3)غانا:
غانا في غرب إفريقيا كانت لعقود أسيرة الانقلابات العسكرية، لكنها منذ مطلع التسعينيات دخلت مرحلة جديدة، حيث أُقرت انتخابات تعددية حقيقية، وبدأ التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب. ومع كل دورة انتخابية، ترسّخت ثقافة أن الحكم لا يُختطف بالقوة، بل يُمنح عبر صناديق الاقتراع. وهكذا تحولت غانا إلى نموذج إفريقي نادر، أثبت أن التداول السلمي للسلطة يحصّن الدولة ضد إعادة إنتاج الاستبداد.
إلى جانب بناء المؤسسات الديمقراطية، هناك حاجة إلى مقاربة وقائية شاملة تحصّن المجتمع ضد محاولات غسيل السلطة. هذه الوقاية تبدأ من التعليم الذي يرسّخ قيم المواطنة، ويُربي الأجيال على أن الشرعية السياسية تُستمد من الشعب لا من القوة أو الولاء الأعمى. وتُعزّزها وسائل الإعلام المستقلة التي تكشف التلاعب السياسي وتفضح محاولات التزييف، بدل أن تكون أبواقًا لغسيل النفوذ. كما يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في رصد أداء السلطة ومساءلتها، وبناء وعي جماعي يرفض إعادة إنتاج الاستبداد. إن تعزيز هذه الأبعاد الوقائية يُسهم في خلق مناعة وطنية، تجعل من محاولات غسيل السلطة مجرد محاولات مكشوفة تفشل سريعًا أمام وعي الشعب ويقظة مؤسساته.
إذا كان غسيل الأموال يمثل جريمة اقتصادية تُفقد الدولة مواردها وتُضعف اقتصادها وتشوّه بيئة الاستثمار، فإن غسيل السلطة هو الجريمة الأخطر، لأنه لا يقتصر على المال بل يضرب في عمق السياسة والمجتمع. غسيل الأموال قد ينهك خزينة الدولة، لكنه يُعالج بآليات الرقابة والمحاسبة الاقتصادية. أما غسيل السلطة فيُفقد الدولة مستقبلها، لأنه يُعيد إنتاج الاستبداد في أثواب جديدة، ويُحوّل التضحيات الشعبية إلى مجرد جسر يعبر فوقه الطامعون نحو سلطة زائفة.
إنّ خطورة غسيل السلطة تكمن في أنه لا يتيح للشعوب أن تبدأ من جديد، بل يُقيدها في دائرة مفرغة من الانقلابات والانتفاضات، حيث يسقط نظام فاسد ليقوم آخر على أنقاضه، دون أن يتغير جوهر السلطة أو بنيتها. وهذا ما يجعل الأوطان تستهلك أعمار شعوبها في إعادة إنتاج الأزمة بدلًا من تجاوزها.
من هنا، فإن بناء سودان جديد يتطلب قطيعة واضحة مع هذه الممارسة، وإغلاق الأبواب أمام عودة الوجوه والأدوات ذاتها في ثوب جديد. وهذه القطيعة لا تتحقق بالشعارات وحدها، بل ببناء منظومة مؤسسية متينة، جوهرها:
ديمقراطية حقيقية لا تُفرغ من مضمونها.
سيادة قانون لا تستثني أحدًا.
مؤسسات دستورية لا تُختطف ولا تُغيّب.
ثقافة سياسية تجعل التداول السلمي للسلطة هو القاعدة الراسخة غير القابلة للتلاعب.
إنّ دولة القانون والمؤسسات وحدها هي القادرة على حماية الشعب من تكرار دورات التزييف والانقلابات، لأنها تضع الشرعية في يد الشعب، وتُحصّنها ضد محاولات الغسيل والتدوير. وهكذا فقط يمكن أن يتحقق الانتقال من حالة الهشاشة السياسية إلى حالة الاستقرار والديمقراطية، ومن دائرة الأزمات المتكررة إلى أفق بناء وطن مزدهر، تكون فيه السلطة خدمة للشعب لا غنيمة تُغسل وتُعاد تدويرها، فلا ديمقراطية حقة بلا قطيعة مع غسيل السلطة، ولا نهضة بلا دولة مؤسسات تصون إرادة الشعب.
السبت 6 سبتمبر 2025م