الرواية الأولى

نروي لتعرف

زوايا المرايا / د. زينب السعيد من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

عودة الحياة إلى السودان: مسؤولية من؟

محمد الحاج

في ظل ما يشهده السودان من أزمات متراكمة وانهيارات متتالية في بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تبرز قضية العودة للمناطق الامنة في الوطن كواحدة من أكثر القضايا إلحاحًا وتعقيدًا في آنٍ واحد. ليس المقصود بالعودة هنا مجرد عودة المغتربين أو اللاجئين، بل عودة الحياة نفسها إلى طبيعتها، عودة الاستقرار إلى المدن، وعودة المواطن إلى منزله دون خوف أو قلق، وعودة الدولة إلى أداء وظائفها الأساسية دون ارتباك أو تبعية. هذه العودة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال فهم عميق لمقوماتها، وتحديد المسؤوليات بدقة: هل هي مسؤولية الحكومة وحدها؟ أم مسؤولية وطنية مشتركة تقع على عاتق الجميع؟

السودان اليوم يقف على مفترق طرق. فبعد سنوات من الصراعات المسلحة، والانقسامات السياسية، والتدهور الاقتصادي، بات المواطن السوداني محاصرًا بين مطرقة النزوح وسندان الغلاء، بين فقدان الأمن وانعدام الخدمات، وبين خطاب سياسي منفصل عن الواقع وأجندات خارجية تتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع. في هذا السياق، تصبح العودة إلى السودان، أو بالأحرى إعادة السودان إلى ذاته، مهمة تتطلب أكثر من مجرد قرارات حكومية أو مبادرات فردية او جماعية.

الحكومة، بلا شك، تتحمل مسؤولية مباشرة في توفير البيئة الآمنة والمستقرة التي تسمح بعودة المواطنين إلى مساكنهم. هذه المسؤولية تبدأ من استعادة الامن و الامان مرورًا بإعادة بناء البنية التحتية، وصولًا إلى تقديم الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ومياه وكهرباء. لكن الواقع يقول إن الحكومة وحدها، مهما كانت نواياها، لن تستطيع إنجاز هذه المهمة دون دعم مجتمعي حقيقي، ودون أن يتحول الإصلاح إلى مشروع وطني جامع، يتجاوز الانتماءات الضيقة ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

المجتمع السوداني، بكل مكوناته، مطالب اليوم بأن يتحمل جزءًا من المسؤولية. ليس فقط من خلال دعم جهود الحكومة، بل من خلال إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وبين المواطن وأخيه المواطن. هذه الثقة لا تُبنى بالشعارات، بل بالمواقف العملية التي تعزز قيم التعايش والتسامح، وتنبذ خطاب الكراهية والاستقطاب. فالمشكلة ليست فقط في غياب الخدمات، بل في غياب الشعور بالانتماء، وفي تفكك الهوية الوطنية لصالح هويات فرعية متصارعة.

ويجب على الحكومة أن تضع في اعتبارها أن المواطن ليس مجرد مصدر للجباية، بل هو الدافع الأساسي لنهضة السودان. فالمواطن هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل الدولة، وهو العنصر الفاعل الذي لا يمكن تجاوزه في أي مشروع إصلاحي أو تنموي. إن إعادة النظر في جميع القرارات الصادرة من الجهات الحكومية المختلفة سواء على المستوى الاتحادي أو الولائي، بات إعادة النظر فيها ضرورة ملحة لضمان توفير بيئة يشعر فيها المواطن بالاطمئنان، ويشعر فيها أصحاب رؤوس الأموال الوطنية بالثقة لتوظيف طاقات المواطنين في خدمة مختلف القطاعات. فكلما تم تمكين المواطن، تقلصت نسب البطالة، وتعززت فرص النمو، وتوطدت دعائم الاستقرار.

من بين أبرز العوائق التي تحول دون عودة الحياة إلى طبيعتها في السودان، يمكن الإشارة إلى حالة الاستقطاب المجتمعي الحاد، التي تغذيها النخب السياسية والإعلامية، وتُغذى بدورها من قبل أجندات خارجية تسعى إلى إبقاء السودان في حالة من الفوضى والضعف. هذا الاستقطاب لا يقتصر على الانتماء السياسي أو القبلي، بل يمتد إلى قضايا الهوية والدين والجندر، حيث يتم توظيف هذه القضايا الحساسة لتحقيق مكاسب ضيقة على حساب وحدة المجتمع واستقراره.

كما أن غياب مشروع وطني واضح المعالم، قادر على توحيد السودانيين حول أهداف مشتركة، يمثل عائقًا جوهريًا أمام أي محاولة للعودة. فالمواطن السوداني اليوم لا يجد ما يجعله يثق في المستقبل، ولا ما يدفعه إلى التضحية من أجل وطن لا يشعر بأنه يحتضنه. وهنا تبرز أهمية طرح بدائل جادة لخطابات الهوية والانتماء، بدائل تقوم على الحقوق والعدالة الاجتماعية، لا على العواطف والانفعالات.

السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح في هذا السياق هو: كيف يمكن تخفيف الضغوط على المواطنين؟
الإجابة لا تكمن فقط في تقديم المساعدات أو تخفيض الأسعار، بل في إعادة بناء منظومة الحياة نفسها. المواطن يحتاج إلى الأمن قبل الغذاء، وإلى الكرامة قبل الوظيفة، وإلى العدالة قبل الخدمات. تخفيف الضغوط يبدأ من الاعتراف بمعاناة الناس، ومن إشراكهم في صنع القرار، ومن احترام صوتهم وتطلعاتهم. يبدأ من إعلام مسؤول، ومن تعليم يزرع الأمل، ومن إدارة شفافة تحاسب نفسها قبل أن تحاسب الآخرين.

إن مقومات عودة الإنسان السوداني الي ممارسة دوره الطبيعي في نهضة وطنه لا يمكن أن تُختزل في بند أو قرار، بل هي منظومة متكاملة من السياسات والمواقف والسلوكيات. وهي مسؤولية وطنية بامتياز، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أدرك الجميع أن الوطن لا يُبنى بالحياد، ولا يُحمى بالصمت، ولا يُستعاد بالتمني.
إنها مسؤولية الحكومة، نعم، لكنها أيضًا مسؤولية كل مواطن، وكل معلم، وكل طبيب، وكل إعلامي، وكل ناشط، وكل فرد يرى في السودان أكثر من مجرد مكان، بل وطن يستحق الحياة.

في النهاية، فإن العودة إلى السودان ليست رحلة جغرافية، بل رحلة في الوعي، في الإرادة، وفي الإيمان بأن هذا الوطن، رغم كل ما مر به، قادر على النهوض من جديد إذا توافرت الإرادة، وتوحدت الرؤية، وتشاركت المسؤولية.

محمد الحاج
٢٥ سبتمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!