رؤى وأفكار / د.إبراهيم الصديق

علي عثمان : زعيم من عامة الشعب..

د / إبراهيم الصديق علي



(1)
في الحادية عشر من صباح يوم ٢٦ أبريل ١٩٨٦م، وبعد أن انهي رئيس الوزراء الجديد السيد/الصادق المهدي خطابه، نهض شاب وضئ ونابض الخطاب وبليغ ، ليلقي كلمة بإسم زعيم المعارضة، ذلك الأستاذ علي عثمان محمد طه، لقد برز كنموذج جيل وتيار سياسي جديد، وزعيم جديد من عامة الشعب ، لا يسبق إسمه لقب (السيد) أو (مولانا)، ولم يكن من مرتادي أندية الخرطوم وليال أسمارها ونخب ساستها وصنائع الإستعمار والإستغراب ، ولم يكن نتاج دوائر أجندة خفية، و ثقافات وافدة، ومثلما كانت الجبهة الإسلامية بقوة حضورها الإنتخابي وفاعلية تنظيمها، فإن إرثها القيادي بدأ أكثر وضوحاً وبروزاً في رمزية الأستاذ علي.. وبذات مسارها وصعودها وعثراتها وإبتلاءاتها والحملات الممنهجة والإستهداف المستمر، نال (على) قسط وفير.. ومع ذلك ظل مرفوع الراس وعال الهامة والقدر وموفور الكرامة..
خرج الشيخ علي عثمان من دوائر الحركة الإسلامية إلى ساحة السياسة الواسع وتقاطعاتها العديدة، ومثلما ارتبطت به احلام جيل، فإن آخرين ازعجهم هذا النموذج الحيوي وهذا الظهور الطاغي.. وتلك حكاية طويلة من المغالبة وحسن التدبير وجميل التجاوز ولطيف المحيا وودود اللقيا وثاقب الرأي وعازم الفعال.. (إنه زعيم من عامة الناس)
(2)
في ١٠ مارس ١٩٨٥م، ظهر الرئيس الأسبق جعفر نميري في بيان شهير لإعلان الحرب على الحركة الإسلامية، وتم القبض على معظم قادتها، ولكن الحركة استطاعت توفير حركة آمنة للأستاذ على عثمان، وخلال ايام وفي ظل إضطراب سياسي ومخططات أمنية وتقاطعات أجهزة مخابرات ومكائد قوي سياسية ورغما عن كل ذلك، كان تأثير الحركة الإسلامية في إنتفاضة (رجب /أبريل ١٩٨٥م) حاسماً ومؤثراً.. وكان الدينمو المحرك على عثمان..
وهكذا في كل المنعطفات المهمة كان على عثمان ضابط الإيقاع وقائد الفريق الأساسي، بعقل منظم وتحليل سلس ورؤية لا تغشاها الشوائب أو تتنكب الطريق..
وحين رأت الحكومة إحداث نهضة إجتماعية تم إختياره وزيراً للتخطيط الاجتماعي ( ١٩٩٣م – ١٩٩٥م) ، لإعلاء معاني التكافل وتحقيق تماسك المجتمع وحين ازدادت الضغوط الأجنبية على وطننا وبدأت جولات مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية جولاتها لشد الأطراف، تم تكليفه وزيراً للخارجية (١٩٩٥م – ١٩٩٨م) لفك العزلة وتحقيق إختراق جسور مع مجتمعات وقادة وتحالفات..
وبمثابرة شخصيات مثله عبر السودان من فرث المعاناة والمحاصرة إلى دائرة صناعة المواقف والمبادرة فيها..
وحين صعدت روح الشهيد الزبير محمد صالح ، تم إنتقاء الشيخ علي عثمان نائباً أول لرئيس الجمهورية منذ ١٩٩٨م ، وحين جاء السلام ارتضي الشيخ علي عثمان ان يكون نائباً لرئيس الجمهورية في حكومة الوحدة الوطنية في ٩ يوليو ٢٠٠٥م ، هكذا تتبدل المواقع والمناصب.. ولكن (على) بذات السمت والحضور والعزيمة والإلتزام بقضية الوطن والدين..
(3)
لم يكن الإنتقال من حالة المثالية ونقاء الكوادر ومحدودية التحديات إلى ضخامة إدارة الدولة وقضايا الأمة وتطلعات الشعب وتشابك العلاقات الدولية أمر سهل..
وفوق ذلك، نقل البلاد من حالة الثورة الشعبية العفوية إلى بناء الدولة وتخطيط الإستراتيجية الشاملة وتعزيز التشريعات ذلك وتحقيق تطلعات المحتمع.. فقد احتاجت ثورة التعليم إلى جودة التعليم، وثورة الإنتاج إلى أولوية المشروعات وإستدامتها.. وزيادة الموارد إلى توظيفها بما يفيد الناس، في خدمات الصحة والطرق والجسور والمطارات ، وإتساع المشاركة الشعبية في الحكم المحلي إلى إحكام التنسيق وتوزيع المهام وحدود الصلاحيات.. كان (على) هناك، بلا صخب ولا ضجيج..حتي تكاد تحس بصمته في كل ملمح للعطاء ومشهد للكسب..
(4)
حين أعلن بيان المفاصلة في أمسية ٤ أبريل ١٩٩٩م، اتصل بي الأخ الضو الماحي والي سنار الأسبق، وقال لي (ما كنت تخشاه حدث ، افتح التلفزيون ).. وللامر خلفية طويلة.. فقد استدعاني عام ١٩٩٧م، احد الوزراء (من أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين)، وسألني عن خلفية مقال كتبته عن (تغول الوزير على سلطات وزارة الصحة وولاية الخرطوم حين زار احد المستشفيات متفقداً) ، قلت له هذا رأي إستناداً لقانون الحكم الإتحادي ، صمت قليلاً ثم تحدث بإسهاب عن تباين الرأى بين العسكريين و(الملكية) ، وظن أنني جزء من ذلك الصراع وكنت خال الذهن،
خرجت محبطاً، ولأول مرة اعرف هذا التنازع في أجهزة السلطة، ولكن الأمر فتح آفاقي للبحث والتنقيب عن وقائع وشواهد كثيرة، وفي لحظة إحباط سردت بعض رأي لخاصة الأصدقاء ومنهم الأخ العزيز الضو..
هذه القضايا المتشابكة منذ ١٩٩٢م ومروراً بإجتماعات بحري وإختيار النائب الاول للرئيس ١٩٩٨م، و مذكرة العشرة وتراكمت كثيرة ادت إلى ما حدث في ذلك اليوم من المفارقة ، لم تكن مجرد صدفة أو حدث عابر، وإنما بعض إبتلاءات الإنتقال من مثالية الحركة إلى واقعية إدارة الدولة والسلطة والنفوذ والطموح.. ولكن البعض أراد تحميلها للأخ على عثمان، الرجل الذي اختار ان يسند نتاج مشروع الحركة، جعلوه كبش فداء.. ولكنه لم يركن، لم ينبس بكلمة، لم يزايد على أحد، تحمل بصبر جميل أثقال الأقوال وكثير البهتان ومضى ذلك هو على، لا يشهر سيفاً على إخوانه..
كنت ومازلت، أرى أن المفاصلة نقطة في مسار الإنحدار وجرس إنذار، وتتحمل وزرها أطراف كثيرة، بل مؤسسات الحزب والحركة حين عجزت عن إستشعار الخطر الماثل.. ولا يمكن إلقاء الملامة على شخص مهما علا سهمه..
(5)
فى يناير ٢٠١٧م لاحظت وحدة الحاسب في الاتحاد الأفريقي أن خوادمها تزدحم بشكل غريب بين منتصف الليل والثانية صباحا، رغم أن المكاتب تكون فارغة في تلك الأثناء، كان ذلك مدخل لإكتشاف أجهزة تجسس في المبنى الرئيسي للإتحاد بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا قامت به شركة مقاولات .. وقد أوردت صحيفة اللوموند الفرنسية تفاصيل ما جري..
تلك حقيقة غائبة عن إدراك أعضاء لجنة التمكين في لياليه الغوغائية تلك وهم ينظرون بريبة لعقد بناء منزل الشيخ علي عثمان وبإشراف جهاز الأمن الوطني..
هذه الحقيقة تؤكد صرامة رجل الدولة وحرصه على التأمين من الإختراق حتى لو كان ذلك داره وبيته ومن خلال تلطف في تنفيذ ذلك..
دفع كل مليم من حر كسبه، ولكنه أشرك طرف مهم مختص بالتأمين..
وللأسف غابت هذه الروح الوطنية والحرص علي أسرار الدولة لدرجة وصول أجنبية لمكتب رئيس الوزراء عام ٢٠١٩م وخبيرة أخرى للتشريع بوزارة العدل ، بل وإستدعاء بعثة الأمم المتحدة.. هل عرفتم لماذا السعي لإعتقال رموز الحركة الإسلامية، أنهم سد المنيع ضد مخططات هدم الوطن وتفتيته..
هذا الجبل عصيٌ على الإختراق..
بحثوا ونقبوا وهتفوا ولكنهم لم يجدوا سوي ذلك العقد الذي يقف شاهداً على حرفية، ومنهجية راقية..
لا قصور.. لا شقق في ماليزيا.. لا منتجعات في الإمارات..ولا أسهم في مصارف ولا ودائع.. كل الأكاذيب تبخرت وتلاشت، يد نظيفة ونفس سامية ولسان عفيف.. ذلك على..
(6)
وصلتني رسالة نصية من مراسلنا بالمنتجع الكيني نيفاشا الجمعة ٣١ ديسمبر ٢٠٠٤م يفيدني بإحتمال توقيع إتفاق مباديء مع الحركة الشعبية صبيحة يوم السبت اول يناير ٢٠٠٥م..
وحين نصبت الكاميرات، خرج د. أمين حسن عمر عضو وفد التفاوض وقال للمراسلين (ما زال الوقت مبكراً على الإتفاق)، وقبل ان يغادر العاصمة نيروبي كانت الأطراف قد أعلنت الإتفاق..
تلك رحلة شديدة التعقيد، قادها فريق متكامل، من عسكريين وقانونيين وإقتصاديين وإعلاميين وخبراء في الحكم الإتحادي، كل كلمة فيها لها ألف تفسير والف معنى والف موقف والف رد فعل..
واستمرت على مدار سنوات وطويلة، ما بين صعود وإنحدار، وانتهت بتوقيع إتفاق السلام في ٩ يناير ٢٠٠٥م، كانت بحاجة لرجل في قامة الشيخ علي لترجيح الخيارات والثبات على المبدأ وتأكيد جدية السودان لتحقيق السلام.. وقد كان..
خاطب الأمم المتحدة مع جون قرنق للتبشير بالسلام، وتم ترشيحهما لجائزة نوبل للسلام.. ومع ذلك هو محبوس اليوم منذ أبريل ٢٠١٩م دون سبب وجيه سوي تلفيقات فطيرة وتوهمات موتورة..
(7)
لثلاث دورات متتالية ظل الأستاذ علي عثمان عضواً في مجلس الشعب القومي ( ١٩٧٧م – ١٩٨٥م)، وفى إنتخابات الجمعية التأسيسية ١٩٨٦م فاز بسهولة رغم كثافة الحملات، فقد كان قريبآ من المواطنين، لم يتغير في مظهره، وفى مسكنه، وفى تعامله، وخلال كل مراحل حياته، بداية من
الهيئة القضائية – الأعوام ١٩٧٢ – ١٩٧٦م واللمحاماة ١٩٧٦م وعمله رائداً لمجلس الشعب ١٩٧٧م– ١٩٨٥م، ومع كل تقلبات السياسة من معارضة النظام المايوي إلى المصالحة الوطنية ثم ثورة أبريل ١٩٨٥م.. سياسي من طراز رفيع ووطني، افرغ جهده لخدمة وطنه..
تحفظ الذاكرة – دائماً – كلمات أصحاب النظرات الثاقبة، تثبت الأيام صحة الرؤية وسلامة المنطق، وفى الذاكرة كلمات الشيخ علي عثمان بعد عودته من لندن ومن داخل المجلس الوطني عام ٢٠٠٤م وفي كلمة رصينة (ياأهل دارفور، الله الله في دينكم، الله الله في وطنكم، الله الله في أرواحكم، الله الله فى ارضكم..)..
وسؤاله الشهير : ثم ماذا بعد السقوط؟..
تلك سمة اهل البصيرة والتدبر وسلامة الطوية، قلوب عامرة بفيض من الإيمان وصفاء النفوس.. ولذلك على وإخوانه في السجن..
(8)
من لطائف السير الذاتية في السودان (حصرياً) عبارة (نشأ في أسرة بسيطة)، وهذا نتاج مسخ ثقافي وإستلاب فكري وكأن الأسر الميسورة الحال وحدها من حقها ان تتقدم (للقيادة والريادة)، وأن أبناء الطبقات هم من يتصدر المشهد، وكثر الذين كسروا هذه القاعدة تحت لواء حركة الإسلام الحديث، ومنهم الأستاذ علي عثمان محمد طه مواليد نوفمبر ١٩٤٤م، من أسرة ختمية، أصغر عمراً من قيادات جيل ما بعد الإستقلال (د. الترابي والإمام الصادق المهدي، والشريف زين العابدين الهندي، وعبدالخالق محجوب، تقبلهم الله جميعاً)..
تربى في مجتمع الصلاح والفلاح و(اللقمة الحلال) وطيب الخاطر وصلاة الفجر حاضراً، وهزم مع التيار الإسلامي الحديث تلك الفوارق المصنوعة والتي عبر عنها الشارع إسماعيل حسن حين قال :
بين الديوم والإمتداد شارع ظلط
للعين يبين،
لكنو في الحق موهو شارع؛
ديه آلاف السنين.
مثلاً هناك في الامتداد ليل المطر
ريحة الدعاش بتجيب عطور الياسمين
الرقص في البيت الكبير
الباسطة واللحم السمين
أما الديوم ليل المطر شن العجب
ما موية ماصت ليها طين!!
عركته المواقف وهو يترأس إتحاد طلاب جامعة الخرطوم في وقت عصيب، وتخرج على بمرتبة الشرف في القانون في جامعة الخرطوم ١٩٧١م، والوطن تتقاذفه تجربة مايو اليسارية البائسة، تتاجر بشعارات إقصائية، فكان خزانة مواقف ومركز قرار ودائرة تنسيق، بهدوء ورزانة ودون تهريج.. رجل من عصارة التجارب وجهد المواقف.. وتوفيق من الله..
(9)
فى العام ٢٠٠٧م، كنت اطالع تقرير منظمة راند الأمريكية للأبحاث (RAND Corporation – Research ANd Development)‏ عن ما أسمته الإسلام الحداثي المعتدل، وأهمية بناء شبكة إسلامية معتدلة (
Building Moderate)(Muslim Network
وكنت أرى ذلك مجرد (أمنيات صعبة التحقق)، وقد اثبتت الأيام والشواهد أنني مخطيء، فالحملات الإعلامية والإغتيال المعنوي الذي كنا نظنه مجرد (إستهداف شخصي) و(غبينة اقران) ، أتضح انه جزء من خطة التفكيك و(الزحزحة) وبث الشقاق وإنفراط عقد الثقة.. ولذلك تم تصويب دعاية كثيفة لأمثال الشيخ علي عثمان.. وما لم يخاطر ببالهم ان (على) فكرة والأفكار لا تذبل..
ومهما طال أمد الظلم فإن نهار العدالة سيشرق لا شك في ذلك..
الحرية للشيخ علي عثمان محمد طه، ولإخوانه..

اترك رد

error: Content is protected !!